تعد تجربة نزار قباني الشعرية أكثر التجارب الشعرية العربية الحديثة انتشاراً في الوطن العربي، وأكثرها إثارة للجدل النقدي والإعلامي.‏

لم يتوقف النقد عند حدود نتاجه الشعري بل اهتم بشخصية الشاعر، فلقب بألقاب كثيرة من أهمها: شاعر المرأة، وشاعر الفضيحة، والشاعر الكافر، وشاعر المراهقات، وشاعر النهود، وشاعر الإباحية، وشاعر الفجور، والشاعر التاجر، وشاعر الهزيمة، وشاعر التناقض، وشاعر القضية، والشاعر الملتزم، وشاعر الوطنية، وشاعر الحب ومفسد المرأة والحب، والشاعر الذي أعطى المرأة معنى كونها أنثى، وكاشف القناع عن المرأة، ومجردها من الأنوثة، وشاعر أعطى الجيل معنى الشباب، وشاعر لكل الأجيال، وسوى ذلك من النعوت التي تكشف عن مواقف أيديولوجية تجاه الشاعر إنساناً وشاعراً. فتحول النقد عند هؤلاء وأولئك إلى هجاء أو إلى مدح، وشجع هؤلاء وأولئك اعتراف الشاعر بتناقضاته، وتحولاته، وجنونه، واعتزازه بهذه الصفات، ولم يتوقف عند تأكيد ذلك إعلامياً، بل تعداه إلى تأكيده شعرياً، إذ يؤكد أنه فعل ذلك نكاية بسيوف الانكشارية، ويعلن ولاءه المطلق للنهود، ويعدها منطلقاً لتحرر جسد المرأة وإخراج عواطفها من السرية إلى العلنية.‏

ومن هنا واجهت الدارسين صعوبة الفصل بين شخصيته الإعلامية وشخصيته في الحياة اليومية، وشخصيته الشعرية، وهكذا فعلى الرغم من سهولة تجربته الشعرية، من حيث لغتها وموضوعها، إلا أنها غدت من أكثر التجارب الشعرية العربية المعاصرة غموضاً، إذ من السهل جداً القبض على مضمونها الظاهر، ولكن القبض على الوجه الخفي في شعره والذي يختبئ تحت عباءة الرمز يكاد يكون مستحيلاً.‏

وهنا تكمن أهمية دراسة شعر نزار قباني من منظور مغاير للمنظور الذي انطلق منه كثير من الدارسين.‏

في ضوء هذا المنظور يحاول هذا البحث أن يرسم معالم طريق جديد في الدراسة النفسية لشعره، تستفيد من مختلف المناهج ضمن الاتجاه النفسي العام، ولكنها تتميز عنها بكونها لا تهتم بشخصية الشاعر، قدر اهتمامها بنتاجه، ولا تتخذ أدلتها إلا من شعره، ومما صرح به هو نفسه في سيرته الذاتية وفي حواراته التي تعد وجهاً آخر لأدبه.‏

وإذا كانت المرأة هي الموضوع الذي استنفذ جل طاقته الشعرية خلال نصف قرن من الزمن، حيث كانت موضوعاً لأولى قصائده، وموضوعاً لآخر قصائده، أيضاً، وأوحى إليه بآلاف الصور، فما سر ذلك؟ ولماذا المرأة، إذن، في شعره دون سواها من الموضوعات المحفزة للشاعر في هذا الكون؟ ولماذا اختارها دون سواها من الموجودات الجميلة في هذا العالم؟‏

إن هذا السؤال هو الأكثر تردداً على ألسنة النقاد، وهو السؤال الذي حاول نزار قباني نفسه أن يجيب عليه، وهو السؤال نفسه الذي تحاول هذه الدراسة أن تسهم في الإجابة عليه.‏

ولتحقيق هذا الهدف، قسمت البحث على أربعة فصول وخاتمة تلخص أبرز النتائج المتوصل إليها في هذا البحث..‏

تناولت في التمهيد المنهج والإجراء، فعرضت لأهم المناحي التي سارت فيها البحوث في هذا الاتجاه فكان التوقف عند فرويد، لا على أساس منهجه العام، ولكن على أساس تلك الأفكار التي ربطت بين الحلم والنص الأدبي، وجعلت منه خطاباً لغوياً يبلور الرغبة في أنموذج خيالي، ويسعى إلى تحقيقها تحقيقاً مقنعاً. ويجعل الطفولة المصدر الأساس لمحتويات الحلم والنص الأدبي، وينظر إلى تعدد معاني النص الأدبي، ومعاني الحلم. ومن ثم قابليتها لأكثر من تأويل وتفسير، وفي كل ذلك تتخذ اللغة مرجعاً ومنطلقاً لاكتشاف عالم النص. وتعد الصور البلاغية أبرز معالم اللاّوعي في النص الأدبي.‏

ثم حاولت ربط هذا الوافد إلينا بالتراث لاستخلاص تصور منهجي من خلال مجموعة من الثنائيات الضدية اختصرتها في ثنائية الحب والكراهية، وثنائية الجسد والروح، ثم ثنائية المذكر والمؤنث لاستخلاص أبعادها في اللاوعي الثقافي العربي، ومن ثم إمكانات تطبيقها على النصوص الشعرية العربية القديمة والحديثة. ثم كانت الإشارة إلى الاستعارات الملحة التي جاء بها "شارل مورون" بوصفها إحدى الدعامات التي يمكن أن تبنى عليها قراءة نصوصنا، ومن ثم خلصت إلى تصوري لمفهوم القراءة والمنهج والإجراء، وهذا التصور هو الذي انطلقت منه لقراءة شعر نزار قباني، وتطلب مني ذلك، تخصيص الفصل الأول للمنجزات الموضوعاتية لدواوين نزار قباني في المرحلة الأولى( 1944-1968) لاستخلاص الاستحواذ الموضوعاتي الذي يحكم عالم هذه الدواوين متمثلاً في ثلاثة موضوعات محورية، هي المرأة الجسد، المرأة المدينة، والمرأة القصيدة.‏

وخصصت الفصل الثاني، للمرأة الجسد وحصرته في محورين: محور المرأة الأم، ومحور المرأة الحبيبة، فأعطيت فكرة في المحور الأول عن المرأة والشعر العربي، ثم المرأة في شعر نزار قباني لأخلص إلى المرأة الأم في شعره معتمداً على انطباعات الشاعر الطفولية عن الأم، ودعمت ذلك بشواهد من شعره. وحاولت تحديد ملامحها من خلال حقله المعجمي في القصائد التي تغنى فيها بالأم بصورة صريحة أو بصورة رمزية.‏

أما المحور الثاني، محور المرأة الحبيبة، فقد اعتمدت فيه على الصفات الجسدية الحسية التي صور بها هذه الحبيبة، والعناصر الجمالية التي تحدد ملامحها عناصر الطبيعة. وهي عناصر تسير في اتجاه واحد هو الإثارة والإغراء.‏

وخصصت الفصل الثالث للموضوع الثاني، حيث تجلت في هذا الفصل المدينة بوصفها أنثى ترمز إلى الأم وإلى الحبيبة، حيث استعار صفات المرأة للمدينة تارة وصفات المكان للمرأة تارة أخرى. فكانت دمشق بمثابة الأم وبيروت بمثابة الحبيبة.‏

أما الفصل الرابع فقد خصصته للمرأة القصيدة، وركزت فيه على ظاهرة التداخل بين القصيدة والمرأة، التي لاحظها عدد من الدارسين من قبل، مع الإشارة إلى جذور هذه الظاهرة في الأدب العربي القديم، ولكنها عند نزار قباني غدت هاجساً رافق مسيرته الشعرية، ومن ثم حاولت تفسير العلاقة القائمة بين القصيدة والمرأة، والصراع الذي تولد لديه نتيجة التداخل والتماهي بينهما في خيال الشاعر.‏

وقد حاولت فهم مواقفه من المرأة والقصيدة متمثلة في كونها (المرأة) تساوي القصيدة أحياناً، وأحياناً أخرى تبدو أجمل وأحلى من القصيدة، في حين تبدو القصيدة في أحيان كثيرة أجمل من المرأة.‏

هذه المواقف التي رافقت مسيرته الشعرية- منذ أن أصدر أول دواوينه (قالت لي السمراء) إلى آخر ديوان صدر في حياته- تعد ظاهرة محيرة في شعر نزار قباني، ومن هنا كان لا بد من محاولة البحث في هذه الظاهرة لاستعراض مواقفه المختلفة من خلال مجموعة من القصائد ومحاولة تفسير ذلك.‏

ثم أفردت خاتمة لهذا البحث، ركزت فيها على أهم العناصر التي واجهت تجربة نزار قباني الشعرية عن المرأة.‏



.... مع تحياتي ....