تحدثنا في الجزء الماضي عن آلية انتقال الصوت,وكيف تستخدم السماعة هذه الآلية في توليد أصوات متنوعة,هي تهتز علي نحو متفاوت,بسرعة أو ببطئ (أو فيما بينهما) مولدة نغمات حادة أو غليظة,وهي تهتز بقوة أو بضعف,مولدة صوتا عاليا أو منخفضا,والمزج بين هذه الخصائص الأربعة يعطينا كل النغمات التي نسمعها,ورأينا أيضا كيف أن الحاسوب يستطيع تمثيل الاهتزاز السريع والبطئ في يسر
،فكل ما عليه أن يفعله هو أن يقوم بتوفير نبضات كهربية متلاحقة الي السماعة,وتستجيب السماعة بالاهتزاز مع كل نبضة,هذه الطلقات المتلاحقة من النبضات الكهربية هي من تحدد عدد مرات اهتزاز السماعة في زمن ما,وبالتالي تحدد سرعة اهتزاز السماعة,وبالتالي تحدد نوع النغمة,لكن الحاسوب يفشل في تمثيل الاهتزاز القوي والضعيف,حيث يحتاج الاهتزاز القوي الي ارسال نبضة قوية (ذات شدة تيار عال) ,العكس مع الاهتزاز الضعيف,والذي يحتاج الي ارسال نبضة ضعيفة (ذات شدة تيار منخفضة) .

والمشكلة الحقة ، هو أن كل نبضات الحاسوب متشابهة و ذات شدة متساوية,فلا يمكن تغيير شدتها,وبالتالي لن يمكن تغيير شدة الاهتزاز,وسيعجز الحاسوب عن التحكم في علو وانخفاض الصوت،وتوفقنا عند سؤال ختامي : كيف يمكن جعل كل نبضة مختلفة عن الأخري ، وتحديدا من ناحية الشدّة ؟

1-الشك في كل شئ !
عندما ختمت الجزء الثاني بالسؤال السابق ، كان أول ما توقعته هو أن أتلقي أسئلة عن ما أعتبرته (ثغرة) كبيرة في المقال,والثغرة هي عبارة أن "كل نبضة في الحاسوب هي نبضة متساوية الشدة ،ومتشابهة مع زميلاتها",حيث لم اضع لهذا تفسيرا ,أو سببا مقنعا,بل وضعتها كحقيقة كونية مطلقة,ولم يسألني أحد عنها أيضا,ويبدو أنها انطلّت علي الجميع.

وفيما يخص العلوم الدنيوية,فان الحقيقة المطلقة الوحيدة التي أعرفها هي وجود خالق لهذا الكون,فيما عدا ذلك,فكل شئ مآله التغيير والتبديل والتعديل عليه,بل والشك فيه,واذا كان لنا أن نتعلم من الجزء الأول من هذه السلسلة شيئا,فهو أن لكل شئ مغزي وسببا,فاختراع الأجهزة التناظرية (السماعة والشاشة) تمّ ليستمع الانسان الي الأصوات ويشاهد الصور,واختراع الذواكر تمّ ليسجل الانسان ما يحتاجه من صور واصوات ليعرضها مرارا ومرارا,واختراع المعالجات تمّ ليغير الانسان من هذه الأصوات والصور لتناسب احتياجاته,أو ليشتق منها بيانات جديدة .

ولأن لكل شئ سببا ومغزي ، بدا النسيج مترابطا متماسكا .. و تقبله عقل الانسان بسرعة,لا وجود لاختراع صٌنع بلا هدف,لا وجود لقانون أو قاعدة أو حقيقة بلا فائدة أو مغزي أو حكمة من وراءه أو وراءها,وعلي هذا تكون تلك العبارة التي اشرت اليها بالأعلي نموذجا مثاليا للسخف العلمي بعينه! نموذجا للتشدق بحقائق أو نظريات أو قوانين علمية ,دون فهم الغرض منها ,أو المغزي من وراءها.

وتكتمل الصورة السيئة عندما تكون تلك العبارة لا اساس لها من الصحة,ماالذي يجبر الحاسوب علي جعل كل نبضاته متساوية الشدة ومتشابهة,ثم يُكلف نفسه عناء البحث عن طريقة متحذلقة معقدة لتمييز نبضاته عن بعضها ؟هل يوجد سبب منطقي لذلك ؟ هل أدركت التناقض في الأمر ؟
ما نحتاجه حقا هو الشك المستمر,التساؤل الدائم عن طبيعة الأمور,كيف تعمل ولماذا تعمل ؟ ولماذا هي هكذا ؟ ولماذا لا تكون عكس هكذا ؟
إن الطبيعة المتشككة ,الناقدة ، هي أولي لبنات الفطرة العلمية السليمة,وهي أول ما يعطي الانسان القدرة علي تمييز الصالح من الطالح,والحقيقة من الزيف و الدجل,وحينها حتي لو اجتمع أهل الأرض جميعا علي اقناعه بالخطأ,فستذهب جهودهم ُسدي.

وعلي الرغم من كل تلك الخطبة الطويلة ، والتي تجعلني ابدو كشيخ خرف ، يتحدث من جوف أهلكته السنون الطوال,علي الرغم من هذا ,الا أن العبارة المقصودة لم تكن خاطئة علي الاطلاق,ولا حتي بمقدار شعرة,إن الحاسوب الأحمق يستخدم نبضات متساوية بالفعل ,ويحاول البحث عن وسيلة لتمييز نبضاته عن بعضها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن,والذي من المفترض أن يكون مطروحا بالفعل,وأن تتحدث عنه الصحف و وسائل الاعلام,وأن ترتج المنابر العلمية باصوات الصارخين به,هو :كيف ولماذا ؟

2-لا يوجد فنكوش !
والفنكوش هو التعبير السوقي البديل لكل أنواع الذواكر ، كما تم توضيحه في الجزء الأول,والفنكوس هو شريط من مادة تستطيع تخزين النبضات الكهربية في خلايا صغيرة,بحيث تسجل كل خلية نبضة واحدة فقط,ثم يتم قراءة الشريط ,واسترجاع النبضات المخزنة عليه بواسطة السماعة,والنظير الأقرب لشريط الفنكوش في عالم الواقع هو شريط المذياع Cassette (كاسيت),والذي ينقرض تدريجيا في الوقت الحالي.

ولأن الشريط مكون من خلايا متساوية,فان شدة النبضات التي تسجل في كل خلية,يجب أن تكون متساوية أيضا,وهذا بسبب وجود علاقة وثيقة بين حجم الخلية وبين شدة النبضة التي يمكن تخزينها فيها .
زيادة شدة النبضة المخزنة تحتاج الي زيادة حجم كل خلية ، وهنا يصبح أمامنا حلّين :
1-إما أن نُنوع في أحجام خلايا الشريط, بحيث يحتوي علي خلايا قادرة علي استيعاب اضعف شدة ,وخلايا قادرة علي استيعاب ضعفي هذه الشدة ,وأخري قادرة علي استيعاب ثلاثة اضعاف هذه الشدة .. الخ.
وهذا حل غير عملي للأسف,فالخلايا الكبيرة ستتكلف أكثر بكثير من الخلايا الصغيرة ,فلا ننسي أن كل خلية مطلوب منها أن تسجن بداخلها شحنة, وشدة الشحنة تتناسب مع حجم الخلية,وعندما تتذكر أننا قد نحتاج الي خلايا بحجم 99 ضعف,أو بحجم 500 ضعف ,ويمكنك عندها أن تتصور حجم المأزق الذي تورطنا فيه,فكل هذا يزيد من حجم الشريط ومن تعقيده أضعافا مضاعفة,هذا أيضا يجعل من أشرطة الفنكوش "أو الذواكر" حلولا غير قابلة لاعادة الاستخدام,فترتيب الخلايا في كل شريط يتوافق فقط مع لحن واحد.
شريط الفنكوش بأحجام غير متساوية من الخلايا,من اليسار الي اليمين : خلية بحجم 2 ضعف,ثم أربعة خلايا بأحجام عادية,ثم خلية بحجم 3 ضعف.

لن يصلح هذا الشريط الا لتخزين الألحان (البيانات) التي تحتوي علي نبضات ذات شدة مضاعفة في بدايتها,فلا يمكن له مثلا أن يسجل لحنا يبدأ بشدة 3 اضعاف ,أو أربعة اضعاف,ولا ينطبق هذا علي أول خلية فقط ,بل علي كل خلية علي طول الشريط ,حيث يجب أن يكون هناك توافق تام بين حجم الخلية, وشدة النبضة المطلوب تسجيلها,وهنا كما نري يصبح هذا الحل غير منطقيا علي الاطلاق .

2-الحل الثاني هو أن نبني كل خلايا الشريط بأكبر حجم ممكن,فاذا افترضنا أن أقصي شدة نحتاج اليها هي 999 ضعف,فان فالمطلوب هو بناء كل خلية بحيث تكون بحجم 999 ضعف ,و بحيث تقبل تسجيل أفصي شدة موجودة,بالاضافة الي كل الشدّات الأصغر منها,وهنا تري حقا حجم المصيبة التي ابُتلي بها الحاسوب,فتصميم شريط مثل هذا هو أمر مكلف الي درجة أن مجرد التفكير فيه مٌكلف! ، دعك من أننا لا نضمن احتياجنا الي استخدام شدة أعلي في المستقبل,وعندها يصبح شريطنا المكلف,قطعة من "الفنكوش" ، الحقيقي هذه المرة لا المجازي .

وهكذا يمكننا أن نفهم لماذا اقتصرت النبضات التي تخرج من الحاسوب علي استخدام شدة واحدة ثابتة,فهذا يجعل من تصميم الذواكر أمرا سهلا ,من الناحيتين الاقتصادية والمساحية,حيث تصبح كل الخلايا متساوية الحجم,كما يُمكننا ذلك من استخدام عدد كبير من تلك الخلايا في أي منظومة ذاكرة.
ما العمل اذن ؟ إن لدينا حلين لا يصلحان ، والمشكلة ما زالت قائمة ، كيف نجعل كل نبضة مختلفة عن الأخري ؟

3-بلا جدوي !
كما تعودنا في الجزء الأول ، فلحل أي مشكلة يجب أن نسردها هكذا :
1-السماعة تقرأ شريط الفنكوش "الذاكرة" خلية خلية, وعندما تقرأ خلية مسجل بها نبضة كهربية (واحد),فانها تستقبل هذه النبضة,ويسري في السماعة التيار فتهتز .
السماعة تقرأ خلية خلية ,وتهتز باستقبال الواحد (النبضة),ولا تفعل شيئا مع استقبال الصفر.
2-لكن السماعة تحتاج أكثر من مجرد الاهتزاز لتوليد الصوت ,فهي تحتاج الي معرفة قوة الاهتزاز لتحديد مدي علو الصوت ,وبدون ذلك,فستعطي السماعة صوتا ثابت العلوّ,مثلما تستقبل نبضات ثابتة الشدة !
3-تخيل أن تكون كل الأصوات من حولك صاحبة علو ثابت,حينها,لن تولد النغمات والألحان,فحتي النغمة الواحدة تحتوي علي درجات مختلفة من علو الصوت .
4- تغيير قوة الاهتزاز يحتاج الي استقبال نبضات متغيرة الشدة,فتارة نحتاج نبضة بشدة 1 ضعف مثلا, وتارة نحتاج أخري بشدة 2 ضعف,وأخري بشدة 5 ضعف ..الخ .
5-لا يمكن عمل ذلك, بسبب تكاليف الانتاج العالية لوسائط التخزين (الذواكر), وعلي هذا لا يمكن الوصول الي حل عن طريق الذواكر .

وكقاعدة عامة, وفي أي مشكلة,طالما وصلنا الي طريق مسدود في أحد أطرافها, فان الطرف الآخر قد يحمل الاجابة كلها,والبراعة هنا في ايجاد الطرف الآخر,فالطرف الأول في مشكلتنا هي الذواكر,وهي طريق مسدود,لكن الطرف الثاني هو السماعة نفسها,وهي طريق لم نعرف حاله بعد.

ما هو دور السماعة في هذه القضية؟دورها هو قراءة الذاكرة خلية خلية,ومن ثم استقبال النبضات المخزنة فيها نبضة نبضة, وفقط ,كيف يمكن تعديل هذا الدور ؟ يمكن تعديله بمنعها من قراءة الذاكرة تماما,وبالتالي منعها من استقبال النبضات,وبالتالي منعها من توليد الصوت,وبهذا نكون قد أرحنا أنفسنا وأرحنا السماعة المسكينة معنا,وليذهب توليد الصوت وكل الهراء المصاحب له الي الجحيم,أو يمكن تعديل السماعة بحيث تقرأ الذواكر خليتين خليتين ,أو ثلاثة خلايا ثلاثة خلايا,أو أربعا أربعا,و بحيث تستقبل النبضات, نبضتين نبضتين ,أو ثلاثا ثلاثا ,أو أربعا أربعا .. وهكذا دواليك.

حسنا,يبدو أننا وصلنا الي شئ ما هنا , تري ما الفائدة المرجوة من شئ كهذا ؟الفائدة هي الدمج بالبطع,هل تريد للسماعة أن تهتز بضعف الشدة ؟ اذن اجعلها تقرأ خليتين ,(مٌسجل بهما نبضتين) ,ثم تقوم بدمج النبضتين معا للحصول علي نبضة واحدة بشدة مضاعفة !
هل تريد للسماعة أن تهتز بثلاثة أضعاف الشدة ؟,اذن اجعلها تقرأ ثلاثة خلايا (بهم ثلاثة نبضات) في المرة الواحدة,ثم تقوم بدمجهم معا للحصول علي نبضة واحدة بثلاثة أضعاف الشدة .
السماعة تقرأ خليتين خليتين,ويتطلب هذا توافقا مماثلا في آليات التخزين ,فالنبضة صاحبة ثلاثة أضعاف الشدة يتم تقسيمها الي ثلاثة أجزاء,ثم يتم تسجيل كل جزء علي خلية ، بحيث تٌخزن النبضة كلها علي ثلاثة خلايا متتالية ، والنبضة ذات الأربعة أضعاف,يتم تقسيمها و تسجيلها علي أربعة خلايا,وكذا الأمر مع النبضة ذات الخمسة أضعاف,والستة,والسبعة ..الخ.

ويقتصر دور السماعة علي قراءة هذه الخلايا المتتالية معا مرة واحدة ,واستقبال النبضات المخزونة فيها,ودمجها معا للحصول علي نبضة واحدة بشدة كبيرة,وتتم عملية الدمج في السماعة عن طريق مجموعة من الدوائر الكهربية الاضافية ,والتي سُنسميها "المُجمع",وسُنلحق هذا الأخير بالسماعة نفسها,بحيث يستقبل النبضات ويقوم بمضاعفتها بحسب عددها,فاذا استقبل نبتضين (مثلا) ,يقوم باخراج نبضة مضاعفة الشدة.
المُجمع, وهو جهاز يجوي عدة قنوات,وكل قناة تستقبل نبضة واحدة من خلية واحدة,ليتم دمج النبضات جميعا في نبضة واحدة ذات شدة معينة تذهب الي السماعة,وبهذا نكون حولنا المشكلة من تخزين نبضة متفاوتة الشدة,الي تخزين هذه النبضة الواحدة علي عدة خلايا متساوية الشدة ,ثم دمج محتوي كل تلك الخلايا معا في نبضة واحدة.
منظر النبضات القابلة للدمج عندما تُسجل علي الذاكرة,وكل مستطيل ملون يحوي خلايا سيتم دمجها,قمة في البساطة حقيقة,أليس كذلك ؟لا ليس كذلك,ولا كذلك ,ولا كذلك,وأزيد عليهم ولا كذلك كذلك,إن العقل المدقق سيكتشف فورا الثغرة في هذا النظام,تلك الثغرة التي تهدم المنظومة كلها من جذورها,بل وتقتلعها اقتلاعا,ملقية بها في غيابات الخيال الردئ.

كيف ستعلم السماعة أن المطلوب منها قراءة ثلاثة خلايا معا لتدمج محتوياتهم في لحظة معينة,ثم قراءة ستة خلايا في لحظة آخري,ثم قراءة خمسة في لحظة آخري وآخري ؟إن السماعة هي أداة بلهاء بلا عقل,وكل ما تفعله هو قراءة الذاكرة من بدايتها الي نهايتها دون تمييز,فكيف نطلب منها معرفة الخلايا التي سيتم دمجها من الخلايا العادية التي لن يتم دمجها ؟

إن عمل هذا مستحيل بالطبع,الا إذا قمنا بتعيين قرد مُدرب بشكل جيد,يحفظ اللحن,ويقوم بضبط السماعة يدويا في كل مرة ،وستكون مشكلتنا الوحيدة حينها هي توفير مقدار من الموز يكفي "هذا الوحش الجائع",لكن ولأن "البعض" من الناس "قد" يكره فكرة الاحتفاظ بقرود في المنزل ,سُننحي هذا الحل جانبا بشكل "مؤقت",عالمين أننا سنعود اليه كحل بديل وفعّال اذا ما استفحلت الأمور,وسنتجاهل عنصرية الانسان تجاه هذا الحيوان المسكين .

هل يجوز أن نُحقر من شأنه,وننفر منه,لمجرد أنه لا يستطيع الكلام والتعبير عن رأيه ؟هل هذا لأنه غبي,بطئ التعلم ,سريع الهياج,متقلب المزاج ,وشقي وهمجي و مخرب بدرجة تصيب ربّات البيوت بالجنون المُطبق والانهيار العصبي ؟كل هذه عيوب بسيطة يمكن تفاديها بقليل من ضبط السلوك,واجبار القرد علي اتباع نمط حياة معين,وثق أنه سيتعود عليه ويتبعه في ثبات لا يحيد عنه.

والنمط الثابت هو ما نحتاجه حقا هنا ، (ليس لتأديب القرد) ،ولكن لحل مشكلتنا التي يبدو أنها لن تنتهي أبداا,سنقوم بضبط السماعة البائسة علي نمط قراءة ثابت ,بحيث تقرأ في كل لحظة عددا ثابتا من الخلايا,بدلا من العشوائية في القراءة,ولنفترض أنه ثلاثة خلايا في كل مرة.
السماعة تقرأ ثلاثة خلايا في كل مرة, لتدمج محتوياتهم ,وكل مستطيل ملون يحوي ثلاثة خلايا,لتسجيل نبضة بثلاثة أضعاف الشدة,فاننا نملأ الثلاثة خلايا كلها.

لكن بفرض أننا نرغب في تسجيل نبضة مضاعفة الشدة (2 ضعف),فان طريقة تخزينها ستتكون من تقسيم هذه النبضة الي جزئين,ثم تسجيلهما علي أول خليتين ,وترك خلية واحدة بعدهما خالية بدون نبضة (صفر),هكذا, وعندما تقرأ السماعة أول ثلاثة خلايا, فانها ستستقبل نبضتين فقط,وستقوم بدمجهم معا ,كنبضة مضاعفة الشدة.

واذا أردنا تسجيل نبضة واحدة بأقل شدة ممكنة, فاننا نخزنها في أول خلية ,ثم نترك خليتين بعدها خاليتين,لتقرأها السماعة علي أنها نبضة واحدة بشدّة واحدة ,أي أن السماعة تقرأ في كل مرة ثلاثة خلايا,بغض النظر عن محتويات هذه الخلايا (حتي لو كانت كلها أصفارا),وستقوم بالدمج بحسب محتويات هذه الخلايا الثلاث :
0 0 0 = صفر (لا شئ)
1 0 0 = نبضة واحدة
1 1 0 = (دمج نبضتين/واحدين) = نبضة بشدة مضاعفة
1 1 1 =(دمج ثلاثة نبضات/واحدات) = نبضة بثلاثة أضعاف الشدة
لكن قراءة ثلاثة خلايا معا لا تكفي,فأقصي ما تستطيع هذه المنظومة تقديمه,هو ثلاثة مستويات من الشدة :شدة دنيا (1 ضعف), وشدة مُضاعفة (2 ضعف) ,و شدة ذات ثلاثة أضعاف (3 ضعف),ونحن نحتاج الي مستويات أعلي وأعلي بالطبع,بل أعلي وأعلي وأعلي من الأعلي التي تسبق آخر أعلي,إننا نحتاج الي نبضات ذات شدة بـ500 ضعف,وعلي هذا فسنضطر الي ضبط السماعة بحيث تقرأ 500 خلية في كل مرة,بغض النظر عن محتويات هذه الخلايا,سواء كانت كلها أصفارا ,أو كلها واحدات ,أو بعضها كذلك وبعضها كذلك.

إن هذا لجنون مطبق,وعندما تعلم أن الـ500 ضعف هو رقم بخس,و أن تمثيل الصوت الجيّد يحتاج الي 64 ألف ضعف علي الأٌقل,يمكنك أن تفهم نوعية الجنون الذي أتحدث عنه,إننا نعود الي نقطة البداية من جديد,فتكاليف انتاج الذاكرة بهذا النمط ستكون مرتفعة للغاية,دعك من أن ثلاثة أرباع الشريط سيكون أصفارا ,لأننا لن نستخدم الحد الأفصي من الشدة في كل مرة, وسنترك الكثير من الخلايا الخالية,وهو ما يعتبر اهدارا مُروعا للموارد.

إننا وعلي الرغم من كل الجهد الذي نبذله,ومن كل الفنكوش والقرود والواحدات والأصفار ,ندور في حلقة مفرغة بلا أمل يلوح في الأفق ليعطينا الحل,لقد استنفدنا كل الحلول,واحتملنا الاستماع الي حذلقتي التي لا تنتهي,ومحاولات التذاكي والتظاهر بالفهم,وجربنا التعديل علي كل شئ,والتقطنا طرف كل خيط ممكن,وكل هذا بلا فائدة.

سٌحقا,أما من حل يصلح معك أيتها السماعة المزعجة ؟ فلتذهبي اذن الي الجحيم أنت وكل التعقيد الذي يقطُر من كل ما يتعلق بك من قريب أو من بعيد,لا نحتاج اليك أبدا حتي لو جلبتي لنا الذهب في طياتك,وحتي لو أتيتنا بألف وعد ووعد,سنحرص علي أن نمحو اسمك وفكرة عملك من الوجود حتي يوم الدين,ولنقتصّن من كل من تُسوّل له نفسه أن يخترعك وأن يستخدمك في أي شئ ، حتي ولو كوعاء لجمع فضلات الحيوانات.

4- لحظة غضب !
لكن الدنيا لا تتوقف عند لحظة غضب,أو انفعال أخرق,بل تستمر في عناد مثبتة أنه لا مشكلة بلا حل,ولا حل دون تفكير وتأمل عميقين وعمل دؤوب,وملاحظة جيدة , ونقص الملاحظة الجيدة هو ما يُفوّت علينا فرصة استغلال ما صنعناه بأنفسنا,لندمره في لحظة تهوّر.

لقد ادّعيت في بداية المقال أن حل أي مشكلة يكون عادة عند أحد أطرافها,ولقد ضيّعنا الوقت في طرف الذواكر,ثم طرف السماعة,ووصلنا الي نهاية مسدودة في كلا منهما,وعلي هذا حكمنا علي أنفسنا بالفشل,لكن فاتنا أن نستغل الطرف الجديد الذي جمعناه بأيدينا,إنه طرف المُجمّع! إن المجمع يستقبل النبضات من عدة خلايا في نفس الوقت,ليقوم بدمجهم جميعا في نبضة واحدة.

وكلما ازدادت شدة هذه النبضة الواحدة ، كلما احتجنا لعدد اكبر من الخلايا لدمج محتوياتهم,وهذا ما يخلق لنا العقبات في كل خطوة,هذا العدد الكبير من النبضات الذي يستهلكه المجمع من أجل عملية الدمج,فللحصول علي نبضة بـ100 ضعف للشدة ,ويلزم دمج 100 نبضة من مئة خلية,وهذا عدد كبير وغير مقبول,ماذا عن 200 ضعف اذن ؟ ماذا عن 1000 ضعف ؟
نحن نحتاج الي طريقة لاختصار أعداد النبضات المطلوبة للحصول علي شدة معينة,والاختصار لمن لا يعرف هو عملية استبدال شئ بشئ آخر أقل منه في الحجم, أو في أي معيار آخر,كيف يمكن استبدال تلك النبضات الكثيرة بشئ أقل منها ؟بالطبع لا يمكن ,فلا يوجد أقل من النبضة الواحدة في الحاسوب,الا اذا كنت تقصد الصفر بالطبع,لكن يمكننا أن نحرص علي أن تكون تلك النبضة الواحدة نفسها هي اختصارا لعدد أكبر من النبضات .
وللتوضيح : سنفترض أن كل نبضة في الذاكرة هي في الوافع اختصار لنبضتين,وسُنعدّل من وظيفة المٌجمع بحيث يستقبل نبضة واحدة من خلية واحدة ,ويحولها الي نبضتين (أي يقوم بمضاعفتها) ,ثم يقوم بدمج النبضتين في نبضة واحدة لكن بشدة مضاعفة,وعندما يفعل المجمع هذا مع كل خلية في الذاكرة, فاننا بهذا نضاعف من قدرة كل خلية علي تخزين شدة أكبر من مجرد شدة نبضة واحدة.