« قاتلهم في أرض حوّارة. » فصبر، وصبروا حتى اشتدّ الحرّ. فقال له غورك:
« يومك يوم حارّ، فلا تقاتلهم حتى تحمى الشّمس عليهم، وعليهم السّلاح، يثقلهم. » فأخذ خاقان برأيه، وأشعل النّيران في الحشيش، وواقعهم، وحال بينهم وبين الماء.
فقال سورة لعبادة:
« ما ذا ترى يا أبا السّليل؟ » قال:
« تركت الرّأى. » قال:
« فما ترى الآن؟ » قال:
« أن تشرع الرّماح، وتزحف زحفا، فإنّما هو فرسخ حتى تصل إلى العسكر. » قال: « لا أقوى على هذا، ولا يقوى فلان وفلان وعدّد رجالا ولكني أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنّه يقاتل، فأصكّهم به، سلمت أم عطبت. » فجمع النّاس، وحملوا، فانكشف التّرك، وثار الغبار، فلم يبصروا. وكان وراء التّرك لهب فسقطوا فيه، سقط فيه العدوّ والمسلمون، وسقط سورة، فاندقّت فخذه، وتفرّق النّاس، فانجلت الغبرة والنّاس متفرّقون. فعطفت التّرك، فقتلوهم لم ينج منهم إلّا ألف رجل.
فانحاز المهلّب بن زياد العجلى في سبعمائة إلى رستاق يعرف بالمرغاب، فأصيب المهلّب بالمرغاب. لأنّ القوم تبعوهم وقاتلوهم، وقاتلهم أهل قصر من قصور المرغاب. فلمّا أصيب المهلّب، ولّوا أمرهم الوجف بن خالد.
فقال لهم غورك وكان في من تبعهم مع التّرك:
« يا وجف، لكم الأمان. » فقال قريش بن عبد الله. » « لا تثقوا بهم. ولكن إذا جنّنا الليل خرجنا عليهم حتى نأتى سمرقند.
فإنّا إن أصبحنا قتلونا. » فعصوه وأقاموا. فساقوهم إلى خاقان فقال:
« لا أجيز أمان غورك. » فقال غورك للوجف:
« أنا عبد لخاقان، من شاكريّته. » قال:
« فلم غررتنا؟ » فقاتلهم الوجف وأصحابه فقتلوا غير سبعة عشر رجلا دخلوا حائطا فأمسوا. فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط، فجاء قريش بن عبد الله العبدى إلى الشّجرة، فرمى بها، فخرج في ثلاثة، فأتوا ناؤوسا فكمنوا فيه، وجبن الآخرون، فقتلوا حين أصبحوا، وقتل سورة.
وكان الجنيد خرج من الشّعب لمّا اشتغل التّرك بسورة، وبادر بالسّير، وكان خالد بن عبيد الله بن حبيب يقول له:
« سر، سر. » ومجشّر بن مزاحم السّلمى يقول:
« أذكّرك الله، أقم. » والجنيد يتقدّم. فلمّا رأى المجشّر ذلك، نزل، فأخذ بلجام دابّة الجنيد. فقال:
« والله، لا تسير ولتنزلنّ طائعا أو كارها، ولا ندعك تهلكنا بقول هذا الهجريّ، انزل. » فنزل، ونزل النّاس، فلم يتتامّ نزولهم حتى طلع التّرك.
فقال المجشّر:
« لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا؟ » فلمّا أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة وجال النّاس.
فقال الجنيد:
« ايّها النّاس، إنّها النّار. » فتراجعوا، وأمر الجنيد رجلا فنادى:
« أيّ عبد قاتل فهو حرّ. » فقاتل العبيد قتالا عجبا عجب منه النّاس، وجعل أحدهم يأخذ اللّبد، فيجوبه، ويجعله في عنقه يتوقّى به، فسرّ النّاس بما رأوا من صبرهم، وحمل العدوّ، وصبر النّاس حتى انهزم العدوّ. فقال موسى بن النّعر للنّاس:
« أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله، إنّ لكم منهم ليوما أرونان. » ومضى الجنيد إلى سمرقند، فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو. وكان المجشّر صاحب رأى في الحرب يرجع إليه. وأمّا عبيد الله بن حبيب فكان له تعبئة في القتال وعلم به، وكان عبد الرّحمن بن صبح الحرقيّ إذا نزل الأمر العظيم في الحرب، لم يكن لأحد مثل رأيه.
ولمّا انصرف التّرك إلى بلادهم بعث الجنيد بنهار بن توسعة مع ابن عمّ له إلى هشام بن عبد الملك يخبره.
« أنّ سورة عصاني. أمرته بلزوم الماء، فلم يفعل، وتفرّق أصحابه، وأصيب سورة في جماعة من أصحابه. » فدعا هشام بنهار بن توسعه، فاستخبره الخبر، فأخبره بجميع ما شهد. وكان الجنيد أوفد إلى خالد، وأوفد خالد إلى هشام يحسّن أمره في قتل سورة.
فقال هشام:
« إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. مصاب سورة بخراسان، والجرّاح بالباب. » فكان أبلى نصر بن سيّار يوم الشّعب، فانقطع سيفه، وانقطع سير ركابه.
فأخذ سيور ركابه يضرب بها من كان يقاتله حتى أثخنه، وسقط في اللهب مع سورة جماعة يومئذ، فلم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه.
فقال نصر:
إن تحسدونى على حسن البلاء لكم ** يوما، فمثل بلائي جرّ لي حسدا
يأبى الإله الّذى أعلى بقدرته ** كعبي عليهم، وأعطى فوقكم عضدا
وضربي التّرك عنكم يوم فرقكم ** بالسّيف في الشّعب، حتى جاوز السّندا
ذكر آراء أشير بها عليه فأخذ بأصولها

ولمّا أقام الجنيد بسمرقند، وانصرف خاقان إلى بخارى، وكان عليها قطن بن قتيبة، فخاف النّاس على قطن من التّرك. فشاورهم الجنيد. فقال قوم:
« الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدّك بالجنود. » وقال قوم:
« بل تسير وتأتى ربنجن، ثم تسير منها إلى كسّ ثم إلى نسف، فتصل منها إلى أرض زمّ، وتقطع النّهر، فتنزل آمل، فتأخذ عليه بالطّريق. »
فبعث إلى عبد الله بن أبي عبد الله، فقال:
« قد اختلف النّاس عليّ فأخبره بما قالوا فما الرأي؟ » فاشترط عليه ألّا يخالفه في ما يشير به من ارتحال ونزول أو قتال. قال:
« نعم. » « فإنى أطلب إليك خصالا. » قال:
« ما هي؟ » قال:
« تخندق حيثما نزلت، ولا يفوتنّك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر، وأن تطيعنى في نزولك وارتحالك.
فأعطاه ما أراد. فقال:
« أمّا ما أشاروا به عليك في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث، فالغياث يبطئ عليك. وإن سرت فأخذت بالنّاس غير الطّريق، فتتّ في أعضادهم وانكسروا عن عدوّهم، واجترأ عليك خاقان وهو اليوم قد استفتح بخارى ولم تفتح له. فإن أخذت بهم في غير الطّريق، تفرّق النّاس عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ أهل بخارى فيستسلمون لعدوّهم وإن أخذت الطّريق الأعظم، هابك العدوّ. والرّأى أن تعمد إلى عيالات من شهد الشّعب وأصحاب سورة، فتقسمهم على عشائرهم، وتحملهم معك، فإني أرجو أن ينصرك الله على عدوّك وتعطى كلّ رجل تخلّف بسمرقند ألف درهم وفرسا. » فأخذ برأيه، وخلّف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشّخّير في ثمانمائة رجل فرسانا ورجّالة، وأعطاهم سلاحا.
فشتم النّاس عبد الله بن أبي عبد الله وقالوا:
« عرّضنا للهلاك. » وأمر الجنيد بحمل العيال، وخرج معه النّاس، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع، وسرّح الجنيد الأشهب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له:
« كلّما مضيت مرحلة، فسرّح إليّ رجلا يعلمني الخبر. » وسار الجنيد، فلمّا صار بقصر الرّيح، أخذ عطاء الدّبوسيّ بلجام فرس الجنيد، فكبحه فقرع رأسه هارون الشّاشى مولى ابن خازم بالرّمح حتى كسره على رأسه.
فقال الجنيد لهارون: « خلّ عن الدّبوسيّ. » وقال له:
« مالك يا دبوسيّ؟ » قال:
أنظر أضعف شيخ في عسكرك، فسلّحه سلاحا تامّا، وقلّده سيفا وجعبة وترسا، وأعطه رمحا، ثم سر بنا على قدر مشيه، فإنّا لا نقدر على السّوق والقتال وسرعة السّير ونحن رجّالة. » ففعل ذلك الجنيد، فلم يعرض النّاس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا لهم بكرمينية أوّل يوم من شهر رمضان. فلمّا ارتحل الجنيد من كرمينية قدّم محمّد بن زيد في الأساورة آخر النّهار فلمّا كان في طرف مفازة كرمينية رأى العدوّ ضعيفا. فرجع إلى الجنيد، فأخبره. فنادى منادى ألّا يخرج المكذّبون إلى عدوّهم. فخرج النّاس وشبّت الحرب، وجاء عبد الله بن أبي عبد الله إلى الجنيد يضحك.
فقال له الجنيد:
« ما هذا بيوم ضحك. » قال:
« بلى، والحمد للَّه، إذا لم يلقك هؤلاء إلّا في حال معطشة على ظهر وأنت مخندق آخر النّهار، بل أتوك كالّين وأنت مستريح، معك الزّاد. » فما قاتل التّرك إلّا قليلا، ثم رجعوا.
وكان عبد الله بن أبي عبد الله قال للجنيد وهم يقاتلون:
« ارتحل. » فقال الجنيد:
« فهل من حيلة؟ » قال:
« نعم، تمضى برايتك قدر ثلاث غلوات، فإنّ خاقان يودّ أنّك لو أقمت، فينطوى عليك إذا شاء. » فأمر بالرّحيل وعبد الله بن أبي عبد الله على السّاقة. ثم أرسل إليه أن:
« أنزل. » قال:
« أنزل على غير ماء؟ » فأرسل إليه:
« إن لم تنزل ذهبت خراسان من يدك. » فنزل، وأمر النّاس أن يستقوا. فذهب النّاس الرّجالة والنّاشبة وهما صفّان، فاستقوا، وباتوا، فلمّا أصبحوا ارتحلوا.
فقال عبد الله بن أبي عبد الله: