« امضه. » فمضيت وما تقلّنى رجلاي، وتنحّى هو عن الطريق، فجلس وجعل ظهره ممّا يلي الطريق وسدل هدب رداءه على وجهه وكان جسيما، فلمّا حاذاه رياح قال لأصحابه:
« امرأة رأتنا فاستحيت. » فأعرض ومضى.
أخذ جماعة بنى حسن بن حسن

ولمّا أعيا المنصور محمّد وإبراهيم تقدّم بأخذ جماعة بنى حسن بن حسن فأخذ رياح، وكان والى المدينة، حسن بن حسن بن حسن، وإبراهيم أخاه، وحسن بن جعفر بن حسن، وسليمان بن عبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، وعبّاس بن حسن بن حسن بن حسن، وكان صغيرا، فقالت أمّه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر:
« دعوني أشمّه. » وكان أخذ من باب داره. قالوا:
« لا والله ما كنت حيّة. » وحبس معهم موسى بن عبد الله وعليّ بن محمّد بن عبد الله، وحملوا إلى أبي جعفر، وكان محمّد أتى أمّه هند وقال:
« إني قد حملّت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به، وقد هممت أن أضع يديّ في أيديهم، فعسى أن يخلّى عنهم. » فتنكّرت ولبست أطمارا، ثم جاءت السجن، فعرفها بعضهم فقام إليها فأخبرته عن محمّد فقالوا:
« كلّا بل نصبر فإنّا نرجو أن يفتح الله له خيرا، قولي له ليدع إلى أمره، وليجدّ فيه فإنّ فرجنا بيد الله. » فانصرفت وتمّ محمّد على بغيته.
وكان محمّد وإبراهيم يراسلان أباهما ويستأذنانه في الخروج فيقول:
« لا تعجلا إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلن يمنعكما أن تموتا كريمين. »
رأس محمد بن عبد الله يبعث إلى خراسان

ووردت على المنصور كتب عمّاله بخراسان أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّا وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله فأمر أبو جعفر بمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فضربت عنقه، وبعث برأسه إلى خراسان، وحلف أنّه رأس محمّد بن عبد الله. وكان المنصور قد ضربه بالسوط قبل ذلك وعذّبه. وكان جميلا وضيئا، فأمر المنصور أن يدخل عليه حين قدم به، وكان عليه قميص وإزار وثوب رقيق تحت قميصه، فلمّا وقف قال:
« إيّها يا ديّوث! » قال محمّد: « سبحان الله، والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا. » قال: « فمّمن حملت ابنتك وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد أعطيتني الأيمان بالطلاق والعتاق ألّا تغشّنى ولا تمالئ عليّ عدوّى ثم أنت تدخل على ابنتك مختضبة متعطّرة ثم تراها حاملا يعجبك حملها، فأنت بين أن تكون حانثا أو ديّوثا، وأيم الله إني لأهمّ برجمها. » فقال محمّد:
« أمّا أيمانى فهي عليّ إن كنت دخلت لك في أمر غشّ علمته. وأمّا ما رميت به هذه الجارية فإنّ الله قد أكرمها عن ذلك بولادة رسول الله إيّاها، ولكني قد ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين غفلة منّا. » فأحفظ المنصور كلامه وأمر بشقّ ثيابه فشقّ قميصه عن إزاره فأشفّ عن عورته ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط فبلغت منه كلّ مبلغ وأبو جعفر يفترى عليه ولا يكنى فأصاب سوط منها وجهه فقال:
« ويحك، اكفف عن وجهى فإنّ له حرمة برسول الله . » قال: فأغرى أبو جعفر بأن يقول للجلّاد:
« الرأس، الرأس. » فضرب على رأسه نحو من ثلاثين فكان السوط ينثني فيصيب وجهه فأصاب بعضها إحدى عينيه فندرت ثم أخرج في ساجور شدّ في عنقه وقيود في رجليه حتى ردّ إلى أصحابه.
وكان أوّل ما حصل في قلب أبي جعفر منه أنّ رياحا قال له يوما:
« يا أمير المؤمنين، أمّا أهل خراسان فشيعتك وأنصارك وأمّا أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، وأمّا أهل الشام فو الله ما عليّ عندهم إلّا كافر وما يعتّدون بأحد من ولده ولكن أخاهم محمّد بن عبد الله بن عمرو لو دعا أهل الشام ما تخلّف عنه منهم أحد. » فوقعت في نفس أبي جعفر إلى أن حجّ، فكان من أمره ما كان.
بنى على الديباج وهو حي

وكان محمّد بن إبراهيم بن حسن بن حسن يقال له الديباج. فلمّا أدخل على أبي جعفر، نظر إليه وقال:
« أنت الديباج؟ » قال: « نعم. » قال: « أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلها أحد من أهل بيتك. » ثم أمر باسطوانة مبنيّة فعرقبت وأمر حتى أدخل فيها ثم بنى عليه وهو حيّ.
وكان محمّد هذا ممّن يختلف إليه الناس ينظرون إلى حسنه.
ثم إنّ أبا جعفر المنصور كان يسقى واحدا بعد واحد فماتوا جميعا إلّا ثلاثة نفر: فأمّا عبد الله بن حسن فاختلف فيه فقال قوم قتل وقال آخرون بل دسّ إليه المنصور من أخبره أنّ محمّدا ابنه قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه فمات.
ودخلت سنة خمس وأربعين ومائة

ظهور محمد بن عبد الله من المذار

وفيها ظهر محمّد بن عبد الله من المذار في مائتين وخمسين رجلا، وجاء حتى استبطن السوق وأتى السجن فدقّه وأخرج من كان فيه. وقيل إنّ عبيد الله بن عمر، وابن أبي ذيب وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمّد قبل خروجه وقالوا:
« ما تنظر بالخروج، والله ما نجد في هذه الأمّة أشأم عليها منك، ما يمنعك أن تخرج وحدك. » فلمّا خرج أقبل إلى الدار فامتنعت عليه فجعل يقول لأصحابه:
« لا تقتلوا واقصدوا باب المقصورة. » فأتوها وحرّقوا الباب، فلم يستطع أحد أن يجتاز فوضع رزام مولى القسريّ ترسه على النار، ثم تخطّى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا فأفلت قوم وأخذ قوم وتعلّق رياح في مشرفة في دار مروان وأمر بدرجها فهدمت فصعدوا إليه فأنزلوه وحبسوه في دار مروان مع أخيه عبّاس بن عثمان. وكان محمّد بن خالد القسريّ وابن أخيه النذير بن يزيد ورزام في الحبس فأخرجهم محمّد وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه فقال رزام للنذير:
« دعني وإيّاه فقد رأيت عذابه له. » قال: « شأنك به. » وقام ليخرج، فتعلّق بثوبه رياح وضرع إليه وقال له:
« يا با قيس، قد كنت أفعل بكم ما أفعل وأنا بسؤددكم عالم. » فقال له النذير:
« فعلت ما كنت أهله، ونفعل ما نحن أهله. » وخرج فتناوله رزام فلم يزل رياح يطلب إليه حتى كفّ وقال:
« والله إن كنت لبطرا عند القدرة لئيما عند البليّة. » ولمّا صعد محمّد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
« أمّا بعد، أيها الناس، فإنّه كان من أمر هذه الطاغية عدوّ الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبّة الخضراء التي بناها معاندة لله في ملكه وتصغيرا لكعبة الله الحرام، وإنّ أحقّ الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين.
« اللهم إنّهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت.
« اللهم فأحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا.
« أيّها الناس، إني والله ما خرجت بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوّة ولا شدّة، ولكني اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلّا وقد أخذ لي. » ونزل ثم استعمل على المدينة عثمان بن محمّد بن خالد بن الزبير وعلى قضاءها عبد العزيز بن المطلّب المخزومي وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب. وأرسل محمّد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وكان قد بلغ عمرا طويلا، فدعاه إلى البيعة له، فقال:
« يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك؟ » فارتدع الناس قليلا.
وحكى عن محمد بن خالد القسريّ، قال:
« لمّا ظهر محمّد وأنا محبوس أطلقنى، ولمّا سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت: هذه دعوة حقّ والله لأبلينّ فيها بلاء حسنا.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّك قد خرجت بهذا البلد وو الله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعا وعطشا فانهض معي فإنّما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. » فأبى عليّ. فإني لعنده يوما إذ قال:
« ما وجدنا من حرّ المتاع أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة ختن أبي الخصيب وكان انتهبه. » قال: فقلت في نفسي: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع؟ فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلّة من معه، فعطف عليّ فحبسني حتى أطلقنى عيسى بن موسى بعد قتله إيّاه.
وكان محمّد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيما عظيما، وكان يلقّب القاري من أدمته حتى كان يسميه أبو جعفر محمما.
وقال إبراهيم بن زياد بن عنبسة: كان محمّد عظيم الخلق ما رأيته رقا المنبر قطّ إلّا سمعت تقعقعه من تحته وإني لبمكانى ذلك.
وتحدّث جماعة حضروه: أنّ محمّدا خطب يوما فاعترض في حلقه بلغم.
فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح فذهب، ثم عاد فتنحنح، ونظر فلم ير موضعا فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به. ولمّا خرج محمّد جزع أبو جعفر وأشفق منه فجعل الحارثيّ المنجم يقول له:
« يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه؟ فو الله لو ملك الأرض ما لبث إلّا تسعين يوما. » ولمّا ظهر محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله أرسل أبو جعفر إلى عمّه عبد الله بن عليّ وهو محبوس، وقال: إنّه لذو رأى، فاستشاره. وقال:
« إنّ هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأى فأشربه. » فقال:
« إنّ المحبوس محبوس الرأي، فأخرجنى يخرج رأيي. » فأرسل إليه أبو جعفر:
« لو جاءني حتى يضرب بابى ما أخرجتك، فأنا خير لك منه وهو ملك أهل بيتك. » فأرسل إليه عبد الله:
« ارتحل الساعة حتى تأتى الكوفة فاجثم على أكبادهم فإنّهم شيعة هذا البيت وأنصارهم. ثم احففها بالمسالح فمن خرج منها أو أتاها فاضرب عنقه، ثم ابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك - وكان بالرّى - واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يوجّهوا إليك أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم. » ثم قال لرسل أبي جعفر وهم أخوته:
« ويحكم إنّ البخل قد قتله فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد فإن غلب فما أوشك ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم. »
رسائل بين محمد بن عبد الله وأبي جعفر