









« يا أمير المؤمنين، الله، الله، فينا، فو الله إني لمكبّ على وجهى منذ أربعين ليلة، ما صلّيت لله صلاة. » « أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم. » قال:
« فأين العفو يا أمير المؤمنين؟ » قال:
« فالعفو إذا. » ثم خلّى سبيله.
وفي هذه السنة ثارت السودان بالمدينة وكان وإليها عبد الله بن الربيع.
ذكر خبر وثوب السودان بالمدينة والسبب الذي هيج ذلك
وكان رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن أبي سبرة على صدقة قوم، فلمّا خرج محمّد صار إليه أبو بكر بما كان جبى وشمّر معه، فلمّا قدم عيسى وهزم محمّدا استخلف كثير بن حصين على المدينة، فأخذ كثير أبا بكر بن أبي سبرة، فضربه سبعين سوطا وقيّده وحبسه، ثم قدم عبد الله بن الربيع واليا من قبل أبي جعفر المنصور، فكان الجند ينازعون التّجار ويتعدّون عليهم، فاجتمعوا إلى أميرهم ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، فطمع فيهم الجند إلى أن صاروا يأخذون من بين أيديهم الشيء فلا يعطونهم الثمن، ولا ينكر عبد الله بن الربيع ذلك، فجاء يوما رجل من الجند، فاشترى من جزّار لحما يوم جمعة ثم أبي أن يعطيه ثمنه وشهر عليه السيف، فخرج عليه الجزّار من تحت الوضم بشفرة فطعن بها خاصرته فخّر عن دابّته واعتوره الجزّارون فقتلوه. وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كل ناحية، ولم يزالوا على ذلك حتى أمسوا، فلمّا كان الغد هرب ابن الربيع، ونفخ السودان في بوق لهم. فذكر أهل المدينة أنّه كان الأسود في بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغى له حتى يتيقّنه، ثم يوحش بما في يده ويؤمّ نحو الصوت حتى يأتيه، فلمّا اجتمعوا غدوا على ابن الربيع، فخرج إليهم والناس في الجمعة فأعجلوه عن الصلاة واستطردوا له حتى أتى السوق، فمرّ بخمسة من المساكين يسألون في الطريق، فحمل عليهم بمن معه حتى قتلوهم، ثم مرّ بأصيبية على سطح فاستنزلهم وآمنهم، فلمّا نزلوا ضرب أعنا قهم، ثم وقف عند الحنّاطين وحمل عليه السودان فأجلى هاربا واتبعوه حتى صاروا إلى البقيع ورهقوه، فنثر لهم دراهم فشغلوا بها، ومضى على وجهه حتى نزل ببطن نخل على ليلتين من المدينة ورؤساء السودان ويتوا وحذيا وعنقود، ولمّا هزموا ابن الربيع وقع السودان في طعام وأمتعة لأبي جعفر المنصور، فانتهبوه وأغاروا على دار مروان وفيها طعام وأشياء للجند، فانتهبوه وباعوا الحمل من الدقيق بدرهمين وراوية الزيت بأربعة دراهم، وقتلوا الجند فهابوهم حتى إن كان الفارس ليلقى الأسود وما على الأسود إلّا خرقتان على عورته فيولّى الفارس دبره احتقارا له، ثم ما يلبث أن يعود بعمود من عمد السوق التي بقرب منه فيقتله به. فكانوا يقولون:
« ما هولاء إلّا شياطين. » يعنون السودان.
ثم مضى السودان حتى أخرجوا أبا بكر بن أبي سبرة، فخطب الناس ودعاهم إلى الطاعة وصلّى بالناس، ثم أرسل إلى محمّد بن عمران ومحمّد بن عبد العزيز فاجتمعوا عنده فقال:
« أنشدكم الله وهذه البليّة التي وقعت، فو الله لئن ثبتت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنّه لاصطلام البلد وأهله، وهولاء العبيد في السوق بأجمعهم، فأنشدكم الله إلّا ذهبتم إليهم وكلّمتوهم في الرجعة والفيئة إلى طاعتكم، فإنّهم لا نظام لهم ولم يقوموا بدعوة وإنّما هم قوم أخرجتهم الحميّة. » فذهبوا إلى العبيد وكلّموهم فقالوا:
« مرحبا بكم يا موالينا، والله ما قمنا إلّا أنفا لكم ممّا عمل بكم، فأيدينا في أيديكم وأمرنا إليكم. » فأقبلوا بهم إلى المسجد، فقالوا:
« أيها الناس، إنّه قد وقع الأمر بما ترون، ونعلم أنّهم لا يبقون علينا، فدعونا نشفيكم وأنفسنا. » فأبينا. ولم نزل بهم حتى تفرّقوا، وقيل لويتوا وخليفته يعقل الجزّار:
« إلى من تعهدنا ويتوا؟
قال: « إلى أربعة من بنى هاشم وأربعة من قريش وأربعة من الأنصار وأربعة من الموالي. ثم الأمر شورى. »
فقال ابن عمران:
« اسأل الذي ولّاك أمرنا أن يرزقنا عدلك ويعطف بقلبك علينا. » قال: « فقد ولّانيه الله. » فلمّا حضرت العشاء الآخرة، وقد ثاب الناس واجتمع القرشيّون في المقصورة، وأقام الصلاة المؤذّن. قال المؤذّن للقرشيّين:
« من يصلّى منكم بالناس؟ » فلم يجبه أحد، فقال:
« ألا تسمعون؟ » فلم يجيبوه، فقال:
« يا بن عمران، ويا فلان. » فلم يجبه أحد، فقام الأصبغ بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، فقال:
« أنا أصلّى. » فقام في المقام، فقال للناس:
« استووا. » فلمّا استوت الصفوف، أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته:
« ألا تسمعون، أنا أصبغ بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، أصلّى بالناس على طاعة أبي جعفر. » فردّد ذلك مرّتين أو ثلاثا، ثم كبّر فصلّى، ثم اجتمع القرشيّون، فركبوا إلى ابن الربيع، وهو بنخل، فناشدوه الله إلّا رجع إلى عمله فيأبى، فخلا به عبد العزيز ولم يزل به حتى سكن ورجع فهدأ الناس.
وفي هذه السنة أسّست مدينة بغداد وهي التي تدعى مدينة المنصور.
ذكر السبب في بناء أبي جعفر بغداذ
لمّا ثارت الرونديّة بأبي جعفر في مدينته التي تسمّى الهاشميّة التي بناها إلى جنب الكوفة والمدينة التي سمّاها الرّصافة، كره سكانها ولم يأمن أهلها، فأراد أن يبعد، فتردّد بين الموصل وجرجرايا، واختار موضع بغداذ، وقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء يأتينا فيها كلّ ما في البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، فنزل وضرب عسكره على الصراة وخطّ المدينة، ووكّل بكلّ ربع قائدا.
وكان الناس أشاروا عليه بموضع قريب من بارمّا، وذكروا له عنه غذاء وطيبا فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه فرآه موضعا طيبا. فدعا جماعة من أصحابه وقال لهم:
« ما رأيكم في هذا الموضع؟ » فقالوا: « ما رأينا مثله، وهو طيب صالح موافق. » فقال: « صدقتم، هو كذا ولكنّه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وإنّما أريد موضعا يرتفق به الناس ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم الأسعار، فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه في البرّ والبحر غلت الأسعار وقلّت المادّة، فاشتدّت المؤونة وشقّ ذلك على الناس. » ثم عاد إلى موضع بغداذ، وأحضر جماعة من سكان القرى التي حواليها وصاحب بغداذ فيهم فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحرّ والبرد والأمطار والوحول والبقّ والهوامّ فأخبره كلّ واحد بما عنده. فوجّه من قبله رجالا حصفاء فبات كلّ رجل منهم في قرية منها، ثم تنحّر أخبارهم واختيارهم فاجتمعوا على صاحب بغداذ.
فيحكى أنّ الراهب الذي كان قريبا من بغداذ قال لأبي جعفر:
« إنّ الذي يبنى هاهنا مدينة اسمه مقلاص. » فقال أبو جعفر:
« فأنا والله كنت أدعى في حداثتي مقلاصا ثم انقطعت عني. » ووجّه المنصور في حشر الصنّاع والفعلة من الشام والموصل وأهل الجبل ومن الكوفة والبصرة وسائر المدن وأمر باختيار قوم من أهل الأمانة والعدالة والفقه والمعرفة، فكان ممّن أحضر الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأمر بخطّ المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللبن وطبخ الآجر، فبدئ بذلك سنة خمس وأربعين ومائة ثم خطّت له بالرماد، فدار عليها وعلى سورها وسككها وخنادقها، فلمّا فعل ذلك مرارا، أمر أن يجعل على تلك الخطوط من الرماد حبّ القطن ويصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل فيها، ففهمها وعرف رسمها وأمر بحفر أساسها وبناءها وإحكام الأساس. وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا وقدّر أعلاه عشرين ذراعا، وجعل في البناء حوائر قصب مكان الخشب في كلّ طوفة فلمّا بلغ الحائط مقدار قامة أتاه خروج محمّد فقطع البناء.
وكان المنصور قد أرضى أصحاب القرى والمزارع، أمّا مدينته وهي بغداذ فكانت لستين رجلا، فأعطاهم العوض عنها وأرضاهم. وأمّا ما كانت حواليها، فكانت قرى متّصلة فأقطعها قوّاده واشتروها، ثم اشترى الناس.
وقال المنصور: يكتب إلى مصر بقطع المادّة عن الحرمين ما دام بها محمّد، فإنّما هم في مثل حرجة إذا انقطعت عنهم المير، وأمر بالكتاب إلى الجزيرة وغيرها أن يمدّ الكوفة بالرجال، وكتب إلى العبّاس بن محمّد، وكان على الجزيرة، أن يمدّه في كلّ يوم بما قدر عليه من الرجال، وكذلك كتب إلى أمراء الشام وقال:
« لو ورد عليّ في كلّ يوم رجل واحد من كل واحد منكم لكثّرت به من معي وإن بلغ الخبر الكذّاب كسره ذلك. »
وفي هذه السنة ظهر إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن أخو محمّد بالبصرة فحارب المنصور.
ذكر الخبر عن مخرجه وسبب ذلك وعن مقتله
لمّا قبض أبو جعفر على عبد الله بن حسن أشفق محمّد وإبراهيم فافترقا وتواريا وتقلّب إبراهيم في البلدان.
فحكى إبراهيم لبعض أصحابه قال:
« اشتدّ الطلب لي وأنا بالموصل، فاضطرّنى الزمان حتى دخلت وجلست على موائد أبي جعفر وذاك أنّه كان قدمها وطلبنى فتحيّرت ولفظتني الأرض وجعلت لا أجد مساغا، ودعى الناس إلى غدائه، ودخلت فيمن دخل، والطرق مشحونة بمن تطلبنى، فجلست وأكلت، ثم خرجت وقد كفّ الطلب.
وتحدّث عبد الله بن محمّد البوّاب قال: أمر أبو جعفر ببناء، قنطرة الصراة العتيقة ثم خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم وخنس إبراهيم فذهب في الناس، فأتى فاميا فلجأ إليه، فأصعده غرفة له، وجدّ أبو جعفر في طلبه، ووضع المراصد، فنشب إبراهيم بمكانه وطلبه أبو جعفر أشدّ ما يكون من الطلب، وكان مع إبراهيم رجل من بنى العمّ، فتحدّث العّمّى هذا قال: قلت لإبراهيم:
« قد نزل ما ترى ولا بدّ من التغرير والدخول تحت المخاطرة. » قال: « فأنت وذلك. » قال: فأقبلت إلى الربيع فسألته الإذن، قال:
« ومن أنت » قال: « سفيان العمّى. » فأدخله على أبي جعفر، وكان أبو جعفر يعرفه بصحبة إبراهيم، فلمّا راه شتمه فقال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)