









« يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أنّى أتيتك نازعا تائبا ولك عندي كلّ ما تحبّ إن أعطيتني ما أسألك. » قال: « وما لي عندك؟ » قال: « آتيك بإبراهيم، إني قد بلوته وأهل بيته فلم أجد فيهم خيرا، فما لي عندك إن فعلت؟ » قال: « كلّ ما تشاء، فأين إبراهيم؟ » قال: « دخل بغداذ أو هو داخلها عن قريب، فإني تركته بعبدسيّ فاكتب لي جوازا ولغلام لي وقرانق واحملنى على البريد. » فكتب له جوازا وضمّ إليه جندا وقال:
« هذا ألف دينار فاستعن به. » قال: « لا حاجة لي فيه كلّه. » فأخذ ثلاثمائة دينار. وأقبل حتى أتى إبراهيم وهو في غرفة عليه مدرعة صوف زيّ العبيد، فصاح به:
« قم يا فلان. » فوثب كالفزع، وجعل يأمره وينهاه حتى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة فدفع إليه جوازه.
قال: « فأين غلامك؟ » قال: « هذا. » فلمّا نظر في وجهه قال:
« والله ما هذا بغلام وإنّه لإبراهيم، ولكن اذهب راشدا. » فأطلقهما وهرب وركبا سفينة حتى قدما البصرة فجعل يأتى بهم الدار لها بابان فيقعد العشرة منهم على أحد البابين ويقول:
« لا تبرحوا حتى آتيكم. » ثم يدخل الدار فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرّق الجند عن نفسه وبقي وحده واختفى حتى بلغ سفيان بن معاوية، وهو على البصرة، خبر الجند، فأرسل إليهم فجمعهم فطلب العمّى فأعجزه.
وحكى الحسن بن حبيب الديلي قال: كان إبراهيم مختفيا عندي على شاطئ دجيل في ناحية مدينة الأهواز وكان محمّد بن حصين يطلبه فقال يوما:
إنّ أمير المؤمنين كتب إليّ يخبرني أنّ المنجمين يخبرونه أنّ إبراهيم نازل في جزيرة بين نهرين وقد اعتزمت أن أطلبه غدا في المدينة لعلّ أمير المؤمنين يعنى بين دجيل والمسرقان.
قال: فأتيت إبراهيم وقلت:
« أنت غدا مطلوب في هذه الناحية. » قال: فأقمت معه يومي، فلمّا غشيني الليل خرجت به حتى أنزلته في دشت أربك دون الكثّ ورجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمّدا أن يغدو في طلبه فلم يفعل، فتصرّم النهار كلّه وطفّلت الشمس فخرجت حتى جئت إبراهيم فأقبلت به فوافينا المدينة مع العشاء الآخرة، ونحن على حمارين، فلمّا دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد وجلس يبول، وطوتنى الخيل فلم يعرّج عليّ أحد منهم حتى صرت إلى ابن حصين، فقال لي:
« أبا محمّد، من أين في هذا الوقت؟ » قلت: « إني تمسّيت عند بعض أهلى. » فقال: « ألا أرسل معك من يبلّغك؟ » قلت: « لا، قد قربت من أهلى. » فمضى يطلب، وتوجّهت على سنني حتى انقطع آخر أصحابه، ثم كررت راجعا إلى إبراهيم، والتمست حماره حتى وجدته فركب وانطلقنا فبتنا في أهلنا فقال إبراهيم:
« تعلم والله لقد بلت البارحة دما، فأرسل من ينظر. » فأتيت الموضع فوجدته قد بال دما.
وقال أبو جعفر: ما زال يظهر أمر إبراهيم لي حتى اشتملت عليه طفوف البصرة.
وحصل إبراهيم بالبصرة، فدعا الناس، واستجاب له خلق، واستتر في بنى راسب. وكان سفيان بن معاوية عامل المنصور يومئذ على البصرة قد مالأ إبراهيم بن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه. فتحدّث جماعة من أشياخ البصرة أنّهم شهدوا دفيف بن أسد مولى يزيد بن حاتم أتى سفيان بن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة فقال:
« ادفع إليّ فوارس، آتك بإبراهيم وبرأسه. » قال: « أو ما لك عمل؟ اذهب إلى عملك. » فخرج دفيف من ليلته، فلحق بيزيد بن حاتم بمصر.
وقال عدّة من الأزد: إنّ جابر بن حمّاد كان على شرطة سفيان، فأتاه قبل خروج سفيان بيوم وقال:
« إني مررت في مقبرة بنى يشكر، فصيّحوا بي ورموني بالحجارة. » فقال له:
« أما كان لك طريق آخر؟ » فمرّ سفيان بعد قتل إبراهيم وانقضاء تلك الأيّام بأبي جعفر المنصور في سفينة له وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال:
« إنّ هذا سفيان؟ » قالوا: « نعم. » قال: « والله للعجب كيف يفلتنى هذا ابن الفاعلة؟ » وكان المنصور أنفذ قائدين كبيرين مع أصحابهما إلى سفيان مددا له، فلمّا قدما عليه صيّرهما بالقرب منه، فلمّا واعده إبراهيم الخروج أرسل إليهما فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتى خرج، فأحاط به وبهما فأخذهم وقيّد سفيان وحبسه في القصر يرى أبا جعفر أنّه بريء من التهم.
وكان أبو جعفر المنصور يبعث إلى سفيان كلّ يوم قوما إلى البصرة فجعلوا يتزيدون ويردون، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر وبلغ جعفرا ومحمّدا ابني سليمان بن عليّ، وكانا يومئذ بالبصرة، مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا فيما قال غير واحد في ستمائة من الرّجالة والفرسان يريدانه فوجّه إليهما المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء ولحق محمّدا رجل من أصحاب المضاء فطعنه في فخذه ونادى منادى إبراهيم:
« لا تتبعوا مدبرا. » وأصاب إبراهيم في بيت المال ألفي ألف درهم، فقوى بذلك وفرض لكلّ رجل خمسين خمسين ووجّه إبراهيم بن المغيرة إلى الأهواز في نحو مائتي رجل، وعامل الأهواز يومئذ من قبل أبي جعفر محمّد بن الحصين، فلمّا بلغه دنّو المغيرة خرج إليه في أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له: دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز. ويقال إنّ أصحاب ابن حصين قد كانوا واطأوا إبراهيم. ووجّه إبراهيم إلى فارس عمرو بن شدّاد عاملا عليها.
فلمّا قرب من فارس بلغ إسماعيل بن عليّ، وكان عاملا عليها من قبل أبي جعفر ومعه أخوه عبد الصمد بن عليّ إقبال عمرو بن شدّاد فبادرا إلى دارا بجرد فتحصّنا بها وكانا بإصطخر وصارت فارس والأهواز والبصرة في سلطان إبراهيم.
ولمّا ظهر محمّد بالمدينة، أرسل أبو جعفر إلى جعفر بن حنظلة، وكان ذا رأى، فقال:
« هات رأيك. » قال: « وجّه الأجناد إلى البصرة. » فقال: « انصرف حتى أرسل إليك. » وقال أبو جعفر:
« اختبل والله جعفر، أسأله عن المدينة فيجيبني عن البصرة. » فلمّا صار إبراهيم إلى البصرة قال:
« إيّاها خفت، بادره بالجنود. » قال:
« وكيف خفت البصرة؟ » قال: « لأنّ محمّدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلّا البصرة. » ولمّا شخص جعفر ومحمّد ابنا سليمان من البصرة، أرسلا إلى أبي جعفر وأخبراه خبرهما فقال أبو جعفر:
« والله ما أدري كيف أصنع، والله ما في عسكري إلّا ألفا رجل، فرّقت جندي، فمع المهدي بالريّ ثلاثون ألفا، ومع محمّد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفا، والباقون مع عيسى بن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا.
وقال عبد الله بن راشد: ما كان في عسكر أبي جعفر كبير أحد، ما هم إلّا سودان وناس يسير. وكان يأمر بالحطب فيحزم، ثم يوقد بالليل فيراه الرائي فيحسب هناك ناسا، وما هي إلّا نار تضرم، وليس عندها أحد.
وكتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى وهو بالمدينة:
« إذا قرأت كتابي فأقبل ودع ما أنت فيه. » فلم ينشب أن قدم، فوجّهه على الناس، وكتب إلى سلم بن قتيبة، فقدم عليه من الريّ، فضمّه إلى جعفر بن سليمان.
فحكى سلم بن قتيبة قال: لمّا دخلت على أبي جعفر قال لي:
« خرج ابنا عبد الله بن حسن، فاعمد لإبراهيم ولا يروعنّك جمعه، فو الله إنّهما لجملا بنى هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك. » قال: فو الله ما هو إلّا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكّر مقالته فأعجب.
وكتب المنصور إلى المهدي وهو يومئذ بالريّ يأمره بتوجيه خازم بن خزيمة إلى الأهواز، فوجّهه المهدي في أربعة آلاف من الجند، فصار إليها وحارب بها المغيرة بن الفزر، فهزم المغيرة وانصرف المغيرة إلى البصرة ودخل خازم الأهواز فأباحها ثلاثا.
وحكى السنديّ قال: كنت وصيفا أيّام حرب محمّد، فكنت أقوم على رأس المنصور بالمدينة، فرأيته لمّا كثف أمر إبراهيم وغلظ، أقام على مصلّى نيّفا وخمسين ليلة، ينام عليه، ويجلس عليه، وعليه جبّة ملوّنة قد اتّسخ جيبها وما تحت لحيته منها ما غيّر الجبّة ولا هجر المصلّى حتى فتح الله عليه، إلّا أنّه كان إذا ظهر للناس عليّ الجبّة بالسواد وقعد على فراشه، فإذا بطن عاد إلى هيئته.
قال: فأتته ريسانة في تلك الأيّام وقد أهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمّد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد بن أبي العيص فلم ينظر إليهما، فقالت:
« يا أمير المؤمنين، إنّ هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك بهما. » فانتهرها وقال:
« ليست هذه الأيّام من أيّام النساء، لا سبيل إليهما حتى أعلم: رأس إبراهيم لي، أو رأسى لإبراهيم. » فهذه كانت عزيمة أبي جعفر.
فأمّا إبراهيم فذكر أبو عبيدة أنّ يونس الحرمي كان يقول: قدم هذا يريد إبراهيم وهو يقصد إزالة ملك، فألهته بنت عمرو بن سلمة عمّا جاء له، وكان إبراهيم تزوّج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بن سلمة. وكانت تأتيه في مصبّغاتها وألوان ثيابها.
وورد كتاب من جعفر ومحمّد ابني سليمان يعلمانه خروجهما عن البصرة، وكان كتابهما في قطعة جراب، ولم يقدرا على شيء يكتبان فيه غير ذلك، فلمّا وصل الكتاب إليه، فرأى قطعة جراب بيد الرسول قال:
« خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم. » ثم قرأ الكتاب ودعا بعبد الرحمن الختليّ وبأبي يعقوب ختن مالك بن الهيثم، فوجّههما في خيل كثيفة إليهما وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، وأن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما. وكتب إليهما يعجزّهما ويضعفهما ويوبّخهما على طمع إبراهيم في الخروج إلى مصرهما فيه واستتار خبره عنهما حتى ظهر. وكتب في آخر كتابه:
أبلغ بنى هاشم عني مغلغلة ** فاستيقظوا إنّ هذا فعل نوّام
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ** وتتّقى مربض المستنفر الحامى
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)