« أيفعل هذا بشيخنا؟ » فأمر رجل منهم غلامه فقال:
« اقطع يد العبد. » فقام إلى غلام اليمانيّ فقطع يده فنفر الحيّان وضرب قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، وصارت مضر فرقة واليمن فرقة وربيعة فرقة والخراسانية فرقة. فقال قثم:
« قد فرّقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كلّ حزب منهم يخاف أن يحدث حدثا عليك فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقيّة. » قال: « وما هي؟ » قال: « اعبر بابنك، فابن له في ذلك الجانب قصرا، وحوّل معه من جيشك قوما، فيصير ذلك بلدا، وهذا بلدا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب، ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسدت عليك مضر، ضربتها بمن أطاعك من اليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن، ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها. » فقبل رأيه ومشورته، فاستوى له ملكه، وكان [ ذلك ] السبب في بناء الجانب الشرقيّ وهي الرصافة أوّلا وإقطاع القوّاد هناك.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين [ ومائة ]

ولم يجر فيها ما تستفاد منه تجربة.
ودخلت سنتا ثلاث وأربع [ وخمسين ومائة ]

ولم يجر فيها أيضا شيء تستفاد منه تجربة.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

وفيها بنى المنصور مدينة الرافقة، ووجّه ابنه المهديّ لبنائها، فبناها على [ بناء ] مدينة بغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وخندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة. وجعل ما أنفق على ذلك من أموال أهلها.
فيحكى: أنّه لمّا أراد بناء سور الكوفة وحفر الخندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم خمسة دراهم على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلمّا عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كلّ إنسان، فجبوا. ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر الخندق لها، فقال شاعرهم:
يا لقوم ما لقينا ** من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ** وجبانا الأربعينا
عزل أسيد عن الجزيرة

وفيها عزل المنصور يزيد بن أسيد عن الجزيرة وولّاها أخاه العبّاس بن محمّد، فشكا يزيد إلى أبي العبّاس فقال:
« يا أمير المؤمنين، إنّ أخاك أساء عزلى وشتم عرضي. » فقال له المنصور:
« اجمع بين إحسانى إليك وإساءة أخي يعتدلا. » فقال يزيد:
« يا أمير المؤمنين، إذا كان إحسانكم جزاء بإساءتكم، كانت طاعتنا لكم تفّضلا منّا عليكم. »
ودخلت سنتا ست وسبع وخمسين ومائة

ولم يجر فيهما ما تستفاد منه تجربة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

وفيها غضب المنصور على محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ وكان أمير مكّة.
غضب المنصور على محمد بن إبراهيم

وكان السبب في ذلك أنّ المنصور كتب إليه يأمره بحبس رجل من آل أبي طالب وبحبس الثوري وابن جريح وعبّاد بن كثير، فحبسهم وكان له سمّار بالليل فلمّا كان وقت سمره أبلس وأكبّ على الأرض ينظر إليها ولم ينطق بحرف، حتى تفرّقوا. قال: فدنوت منه فقلت: « قد رأيت ما بك، فما لك؟ » قال: « عمدت إلى ذي رحم برسول الله فحبسته، وإلى عيون من عيون المسلمين فحبستهم ويقدم أمير المؤمنين السنة، فلا أدري ما يكون، ولعلّه أن يأمر بقتلهم فيقوى سلطانه وأهلك ديني. » قال: فقلت: « فتصنع ما ذا؟ » قال: « أوثر الله، وأطلق القوم، اذهب إلى إبلى فخذ راحلة منها، وخذ خمسين دينارا، فأت بها الطالبي، فأقرئه السلام وقل له: ابن عمّك يسألك أن تحلّه من ترويعه إيّاك، وتركب هذه الراحلة وتأخذ هذه النفقة. » قال: فلمّا أحسّ بي، جعل يتعوّذ بالله من شرّى، فلمّا أبلغته الرسالة قال:
« هو في حلّ ولا حاجة بي إلى النفقة ولا إلى الراحلة. » قال: فقلت له:
« إنّ أطيب لنفسه أن تأخذ. » ففعل.
ثم جئت إلى ابن جريح وإلى سفيان وعبّاد فأبلغتهم ما قال، قالوا:
« هو في حلّ. » قال: قلت لهم:
« لا يظهرنّ أحد منكم ما دام المنصور مقيما. » فلمّا قرب المنصور، وجّهنى محمّد بن إبراهيم بألطاف، فلمّا أخبر المنصور أنّ رسول محمّد بن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. فلمّا صار إلى بئر ميمون لقيه محمّد بن إبراهيم فلمّا أخبر بذلك أمر بدوابّه فضربت وجوهها، فعدل محمّد فكان يسير في ناحية، وعدل بأبي جعفر عن الطريق في الشقّ الأيسر فأنيخ به، ومحمّد واقف قبالته ومعه طبيب له، فلمّا ركب أبو جعفر وسار، أمر محمّد الطبيب، فمضى إلى مناخ أبي جعفر فرأى نجوه، فقال لمحمّد:
« رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة. »
فلمّا دخل مكّة لم يلبث أن مات، وسلم محمّد.
ولمّا مات المنصور، وكان ذلك لستّ خلون من ذي الحجّة، كتمه الربيع، وأحضر أهل بيته وذوي الأسنان منهم، ثم أحضر عامّتهم، وأخذ بيعتهم للمهديّ، ثم لعيسى بن موسى من بعده. فلمّا فرغ من بيعتهم، دعا بالقوّاد حتى بايعوا. ولم يتكلّم أحد إلّا عليّ بن عيسى بن ماهان، فإنّه أبي عند ذكر عيسى بن موسى أن يبايع، فلطمه محمّد بن سليمان وأمصّه وقال:
« من هذا العلج؟ » وهمّ بضرب عنقه، فبايع، ثم تتابع الناس بالبيعة.
وتوفّى وله نيّف وستون سنة، واختلف في النيّف، وكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة.
ذكر بعض سير المنصور

ذكر الفضل بن الربيع حكاية عن أبيه قال: بينا أنا قائم بين يدي المنصور إذ أتى بخارجى قد هزم له جيوشا، فأقامه ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه فقال:
« يا بن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش؟ » فقال له الخارجي:
« ويلك، سوءة لك، بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسبّ، ما كان يؤمنك أن أردّ عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها أبدا. » قال: فاستحيى منه المنصور فأطلقه، وما رأى أحد وجهه حولا.
وحكى سلّام الأبرش قال: كنت وأنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج للناس وأشدّهم احتمالا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثيابه تغيّر لونه وترّبد وجهه واحمرّت عيناه، فيخرج ويكون منه ما يكون، فإذا رجع، عاد لمثل ذلك فنستقبله في ممشاه، فربّما عاتبنا، وقال لي يوما:
« يا بنيّ، إذا رأيتمونى قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي فلا يدنونّ أحد منكم مني لا أعرّه بشرّ. » وقال المنصور يوما:
« ما كان أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر لا يكون أعفّ منهم. » قيل له:
« ومن هم يا أمير المؤمنين؟ » قال: « هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلّا بهم، كما أنّ السرير لا يصلح إلّا بأربع قوائم إن نقصت قائمة واحدة لم تستقم، أمّا أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة يأخذ للضعيف من القويّ، والثالث، صاحب خراج يستقصى لي ولا يظلم الرعيّة، فإني غنّى عن ظلمهم. » ثم عضّ على إصبعه السبّابة وقال:
« آه، آه. » قيل له: « يا أمير المؤمنين، ومن هو؟ » قال: « صاحب بريد يكتب إليّ بخبر هولاء على الصّحة. » وقدّم إلى المنصور رجلان أحدهما شاميّ والآخر عراقيّ وقد ولّاهما خراج ناحيتهما، فقال للشاميّ بعد ما وصّاه وتقدّم إليه بما أراد:
« ما أعرفنى بما في نفسك، كأنّى بك وقد خرجت من عندي فقلت الزم الصحّة يلزمك العمل. » وقال للعراقيّ بعد ما وصّاه:
« ما أعرفنى بما في نفسك كأنّى بك وقد خرجت من عندي فقلت: من عال بعدها فلا انجبر اخرج عني وامض إلى عملك، وو الله لئن تعرّضت لذلك لأبلغنّ من عقوبتك ما تستحقّه. » قال: فولّيا جميعا وناصحا.
وذكر إسحاق بن عيسى بن موسى أنّ المنصور ولّى رجلا من العرب حضرموت، فكتب إليه صاحب البريد:
إنّه يكثر الخروج في طلب الصيد وقد أعدّ بزاة وكلابا كثيرة.
فكتب إليه: