« يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت. » قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه.
قال: فبقيت متحيّرا وسقط في يدي، وامتنع مني الكلام، فما أدري ما أقول.
قال: فقال المهديّ:
« لقد حلّ لي دمك لو آثرت إراقته، لكن احبسوه في المطبق. »
فأتّخذ لي فيه بئر، فدلّيت فيها فكنت كذاك طول مدّة لا أعرف عددها، وأصبت ببصرى وطال شعري واسترسل كهيئة شعور البهائم. قال: فإني لكذلك إذ دعى بي، فمضيت وحملت إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لي:
« سلّم على أمير المؤمنين. » فسلّمت. قال:
« أيّ أمير المؤمنين أنا؟ » قلت: « المهديّ. » قال: « رحم الله المهديّ » قلت: « الهادي. » قال: « رحم الله الهادي. » قلت: « الرشيد. » قال: « نعم. » قلت: « ما أشكّ في وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلّتى وما تناهت إليه حالي. » قال: « أجل، كلّ هذا قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك. » قال: قلت: « المقام بمكّة. » قال: « نفعل ذاك، فهل غير ذاك؟ » قال: قلت:
« ما بقي فيّ مستمتع لشيء ولا بلاغ. » قال: « فراشدا. »
قال: فخرجت، فكان وجهى إلى مكّة.
قال ابنه ولم يزل بمكّة ولم تطل أيّامه بها حتى مات.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يستفاد منه تجربة.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة

وتلك سبيلها
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

وفيها كانت وفاة المهديّ سبب وفاة المهديّ
وكان سبب ذلك أنّه كان عزم على تقديم ابنه هارون على ابنه موسى، فبعث إليه وهو بجرجان يحارب ونداذهرمز وشروين صاحبي طبرستان. وكان وجّهه المهديّ في جيش كثيف لم ير مثله وهيئة لم ير أحسن منها، فلمّا استدعاه علم ما يريد منه، فأبى عليه، فبعث إليه رسولا من الموالي، فضربه موسى، فخرج المهديّ بسبب موسى فتوفّى في طريقه.
واختلف في سبب وفاته، فذكر عن واضح قهرمانه أنّه قال:
خرج المهديّ يتصيّد بماسبذان بقرية يقال لها: الرّذّ، فطردت الكلاب صيدا وأظنّه قال ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة واقتمحت الكلاب واقتحم الفرس خلف الكلاب فدقّ ظهره في باب الخربة فمات من ساعته.
وذكر غيره: أنّ المهديّ كان جالسا في علية قصر بما سبذان يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة قد عمدت إلى كمثّرى كبير فجعلته في صينية وسمّت واحدة منها وهي أحسنها وأنضجها بأن نزعت فمعها الذي في أسفلها وأدخلت فيه سمّا، ثم ردّت القمع فيه ووضعتها على أعلى الصينية.
وكان المهديّ يعجبه كمّثرى وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهديّ كان يتحظّاها، تريد بذلك قتلها، فلمّا مرّت الوصيفة بالصينيّة التي أرسلتها حسنة رآها المهديّ من المنظرة فدعاها ومدّ يده إلى الكّمثراة التي في أعلى الصينيّة وهي المسمومة، فأكلها فلمّا وصلت إلى الجوف صرخ: « جوفي! » وسمعت حسنة الصوت وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكى وتقول:
« أردت أن أتفرّد بك، فقتلتك يا سيّدي. » فمات من يومه.
وكانت خلافته عشر سنين وكسرا، ومات وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ولم يوجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب ودفن تحت جوزة.
ذكر بعض سيره

كان المهديّ إذا جلس للمظالم قال:
« أدخلوا عليّ القضاة، فلو لم يكن ردّى المظالم إلّا للحياء منهم [ لكفى ]. » وجلس المهديّ يوما يعطى جوائز تقسم بحضرته في خاصّه من أهل بيته وقوّاده، فكان تقرأ عليه الأسماء فيأمر بزيادة عشرة آلاف وعشرين ألفا وما أشبه ذلك. فعرض عليه بعض القوّاد فقال:
« هذا يحطّ خمسمائة درهم. » قال: « لم حططتنى يا أمير المؤمنين؟ » قال: « لأنّى وجّهتك إلى عدّو لنا فانهزمت. » قال: « كان يسرّك أن أقتل ولا ينفعك؟ » قال: « لا. » قال: « فو الله الذي أكرمك بالخلافة لو ثبتّ لقتلت. » فاستحى منه المهديّ وقال:
« زده خمسمائة آلاف درهم. »
مسور والمهدي بين يدي القاضي

وتحدّث مسور بن مساور قال: ظلمني وكيل للمهديّ وغصبني ضيعة لي فأتيت سلّاما صاحب المظالم فتظلّمت، فأوصل لي رقعة إلى المهديّ وعنده عمّه العبّاس بن محمّد، وابن علاثة القاضي وعافية القاضي. قال: فقال لي المهديّ:
« ادن. » فدنوت.
فقال: « ما تقول؟ » قلت: « ظلمتني. » قال: « فترضى بأحد هذين. »
قال: قلت: « نعم. » قال: « فادن مني. » فدنوت منه حتى التزقت بالفراش.
قال: « تكلّم. » قلت: « أصلح الله القاضي، إنّه ظلمني في ضيعتي. » فقال القاضي: « ما تقول يا أمير المؤمنين؟ » قال: « ضيعتي وفي يدي. » قال: قلت: « أصلح الله القاضي، سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ » قال: فسأله « ما تقول يا أمير المؤمنين؟ » قال: « صارت إليّ بعد الخلاقة. » قال: « فأطلقها له. » قال: « قد فعلت. » فقال العبّاس: « والله يا أمير المؤمنين، لهذا المجلس أحبّ إليّ من عشرين ألف ألف درهم. »
وصية عجيبة تعرض على المهدي

وقال أبو الخطّاب: لمّا حضرت القاسم بن مجاشع التميميّ من أهل مرو الوفاة، أوصى إلى المهديّ، فكتب: « شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلامُ... » ثم كتب:
« والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله وأنّ عليّ بن أبي طالب، ، وصيّه ووارث الإمامة بعده. » قال: فعرضت الوصيّة على المهديّ، فلمّا بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها.
قال: فلم يزل ذلك في قلب أبي عبيد الله. فلمّا حضرته الوفاة كتب في وصيّته هذه الآية. وقال المهديّ يوما: ما توسّل إليّ أحد بوسيلة ولا تذرّع بذريعة هي أقرب من تذكيره إيّاى يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها فأحسن ربّها لأنّ منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
خلافة موسى الهادي

وفي هذه السنة بويع لموسى الهادي بما سبذان.
ذكر رأي سديد رآه خالد بن يحيى في تلك الحال

اجتمع القوّاد ووجوه الموالي إلى هرون يوم توفى المهديّ، فقالوا له:
« إن علم الجند بوفاة المهديّ لم نأمن الشغب، والرأي أن تتحرّك وتنادى في الجند وبالقفل، حتى تواريه ببغداد. » فقال هرون:
« ادعوا إليّ أبي يحيى بن خالد. » وكان المهديّ ولّى هارون المغرب كلّه من الأنبار إلى افريقية، وأمر يحيى بن خالد أن يتولّى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه إلى أن توفّى. فصار يحيى بن خالد إلى هارون فقال له:
« يا أبه، ما تقول فيما يقول عمر بن بزيع ونصير والمفضّل؟.
قال: « وما قالوا؟ » فأخبره. قال:
« ما أرى ذلك. » قال: « ولم؟ » قال: « لأنّ هذا لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلّقوا بمحمله ويقولوا لا نخلّيه حتى نعطى لثلاث سنين ويتحكّموا ويشتطّوا، ولكن أرى أن يوارى، رضي الله عنه، هاهنا ويوجّه نصير إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية، فإنّ البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذا كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز مائتين مائتين وتنادى فيهم بالقفول، فإنّهم إذا قبضوا الدراهم لم يكن لهم همّة سوى أهاليهم وأوطانهم ولا عرجة على شيء دون بغداد. » قال: ففعل ذلك. وصاح الجند لمّا قبضوا الدراهم:
« بغداذ، بغداذ. » ينادون إليها ويبعثون على الخروج من ماسبذان. فلمّا وافوا بغداد وعلموا خبر الخليفة، صاروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق وضجّوا.
قدوم هارون بغداد

وقدم هارون بغداذ. فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تشاورهما في ذلك، فأمّا الربيع، فدخل عليها، وأمّا يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدّة غيرة موسى.
قال: وجمعت الأموال حتى أعطى الجند لسنتين فسكنوا. وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعّده فيه، وكتب إلى يحيى يجزّيه الخير ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به وأن يتولّى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولّاه.
قال: فبعث الربيع إلى يحيى بن خالد، وكان يودّه ويثق به ويعتمد على رأيه:
« يا با عليّ، ما ترى، فإنّه لا صبر لي على جرّ الحديد. » قال:
« أرى ألّا تبرح موضعك وأن توجّه الفضل ابنك ليستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإني لأرجو ألّا يرجع إلّا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله. » ولمّا قدم هارون كان الجند قد شغبوا على الربيع، وأخرجوا من كان في حبسه. وكان العبّاس بن محمّد، وعبد الملك بن صالح، ومحرز بن إبراهيم، حضروا ورأوا أن يرضوا ويطيّب بأنفسهم وتفرّق جماعتهم بإعطاءهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم، فلم يرضوا ولم يثقوا بما ضمن لهم من ذلك حتى ضمنه محرز بن إبراهيم، فقنعوا بضمانه فتفرّقوا. فوفى لهم وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا.
وأخذ هارون البيعة لموسى الهادي وله بولاية العهد من بعده وضبط أمر بغداذ.
ثم قدم الهادي وكان في نفسه على الربيع ما ذكرناه ومن إعطائه الجنود قبل قدومه. ولمّا وجّه الربيع ابنه الفضل فتلقّاه بما أعدّ له من الهدايا بهمذان، أدناه وقرّبه وقال:
« كيف خلّفت مولاي؟ » فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، وولّاه الوزارة مكان عبد الله بن زياد بن أبي ليلى، وضمّ إليه ما كان عمر بن بزيع يتولّاه من الزمام.
وهلك الربيع في هذه السنة.