ذكر عقوبة سريعة بعقب إقدام على يمين كاذبة

وحكى بعض المشايخ من النوفليين قال: وشى قوم بيحيى بن عبد الله، فحبسه الرشيد، قال: فدخلنا على عيسى بن جعفر وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض وهو قائم متّكئ عليها، وإذا هو يضحك من شيء في نفسه متعجّبا منه فقلنا:
« ما الذي يضحك الأمير، أدام الله سروره؟ » قال: « لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قطّ. » فقلنا: « تمّم الله للأمير سروره. » فقال:
« والله لا أحدّثكم به إلّا قائما. » واتّكأ على فرش كانت هناك قائما، وهو قائم، فقال:
كنت اليوم عند أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله فأخرج من السجن مكبّلا بالحديد وعنده بكّار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان بكّار هذا شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلّغ هارون الرشيد عنهم ويشى بهم، وكان الرشيد ولّاه المدينة وأمره بالتضييق عليهم - فلمّا دعى بيحيى قال له الرشيد:
« هيه هيه - متضاحكا - وهذا أيضا يزعم أنّا سممناه. »
فقال يحيى: « ما معنى يزعم، ها هو ذا لساني. » وأخرج لسانه أخضر مثل السلق.
قال: فتربّد هارون، واشتدّ غضبه، فقال يحيى:
« يا أمير المؤمنين، إنّ لنا قرابة ورحما ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، إنّا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكّرك الله والقرابة والرحم برسول الله علام تعذّبنى وتحبسني؟ » قال: فرقّ له هارون الرشيد، وأقبل بكّار الزبيري على الرشيد، فقال:
« يا أمير المؤمنين، لا يغرّك كلامه، فإنّه شاقّ عاص، وهذا منه مكر وخبث، إنّ هذا أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان. » قال: فأقبل يحيى عليه، فو الله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال:
« أفسدوا عليكم مدينتكم؟ ومن أنتم عافاكم الله؟ » قال الزبيري: هذا كلامه قدّامك، فكيف إذا غاب عنك؟ يقول: ومن أنتم عافاكم الله، واستخفافا بنا. » قال: فأقبل يحيى عليه، فقال:
« نعم، ومن أنتم عافاكم الله، المدينة كانت مهاجر عبد الله بن الزبير، أم مهاجر رسول الله ، ومن أنت حتى تقول: أفسدوا علينا مدينتنا، وإنّما بآبائى وأباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة. » ثم قال:
« يا أمير المؤمنين، إنّما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله فيه بالفضل يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك يسعى بهم عندك. إنّه، والله، ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك وإنّه ليأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا يريد أن يباعد بيننا ويشتفى من بعض ببعض والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إليّ هذا حيث قتل أخي محمّد بن عبد الله، - فقال: لعن الله قاتله - وأنشدنى فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا وقال: إن تحرّكت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك. » قال: فتغيّر وجه الزبيري واسودّ. وأقبل عليه هارون فقال:
« أيّ شيء يقول هذا؟ » قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان ممّا قال حرف. » قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال:
« تروى القصيدة التي رثاه بها؟ » قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله.
فأنشدها إيّاه.
فقال الزبيري:
« والله يا أمير المؤمنين، الذي لا إله إلّا هو - حتى أتى على اليمين الغموس - ما كان ممّا قال شيء، ولقد تقوّل عليّ ما لم أقل. » قال: « فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال:
« قد حلف، فهل من بيّنة سمعوا هذه المرثية منه؟ » قال: « لا يا أمير المؤمنين، ولكني استحلفه بما أريد. » قال: فاستحلفه. فقال:
« قل أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى إن كنت قلته. »
قال الزبيري:
« يا أمير المؤمنين، أيّ شيء هذا من الحلف؟ احلف بالله الذي لا إله إلّا هو، وتستحلفنى بشيء لا أدري ما هو. » قال يحيى بن عبد الله:
« يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما استحلفه به، فقال هارون:
« احلف له ويلك. » قال: فقال: « أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى. » قال: فاضطرب منها وأرعد، فقال:
« يا أمير المؤمنين، ما أدري أيّ شيء هذا اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت بالله أعظم الأشياء. » قال: فقال هارون:
« لتحلفنّ له أو لأصدّقنّ قوله عليك ولأعاقبنّك. » قال: فقال: « أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى إن كنت قلته. » قال: فخرج من عند هارون، فضربه الله بالفالج فمات من ساعته. » قال: فقال عيسى بن جعفر:
« وما يسرّنى أنّ يحيى [ ما ] نقصه حرفا ممّا كان جرى بينهما ولا قصّر في شيء من مخاطبته إيّاه. »
وذكر أبو يونس قال: سمعت عبد الله بن العبّاس بن عليّ الذي يعرف بالخطيب قال: كنت يوما على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم الجند والقوّاد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قطّ لا قبله ولا بعده، فخرج الفضل بن الربيع إلى أبي، فقال له: « ادخل. » ومكث ساعة، ثم خرج إلّى فقال:
« ادخل. » فدخلت فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلّمها، فأومأ إلى أبي أنّه لا يريد اليوم أن يدخل أحدا وإنّما استأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب، فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلا عند الناس. فما مكثنا إلّا قليلا حتى جاء الفضل بن الربيع فقال:
« إنّ عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول. » فقال: « إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدا إليّ. » فقال: إنّه يقول: « إنّ عندي شيئا أذكره. » فقال: « قل له يقله لك. » قال: « قد قلت له ذاك، فزعم أنّه لا يقوله إلّا لك. » قال: « أدخله. » وخرج ليدخله، وعادت المرأة، وشغل بكلامها وأقبل عليّ أبي فقال:
« إنّه ليس عنده شيء يذكره وإنّما أراد الفضل بهذا أن يوهم من على الباب أنّ أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصيّة خصصنا بها وإنّما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري. » وطلع الزبيري فقال:
« يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره. » فقال: « قل. » فقال له: « إنّه سرّ. » فقال: « ما من العبّاس سرّ. » فنهضت. فقال:
« ولا منك يا حبيبي. » فجلست. فقال:
« قل. » قال: « إني والله قد خفت على أمير المؤمنين زوجته وابنته وجاريته التي تلى فراشه وخادمه الذي يلي ثيابه وأخصّ خلق الله به من قوّاده وأبعدهم منه. » قال: فرأيته قد تغيّر لونه وقال له:
« من ما ذا. » قال: « جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله بن الحسن فعلمت أنّه لم يبلغني مع العداوة بيننا وبينهم حتى لم يبق على بابك أحد إلّا وقد أدخله في الخلاف عليك. » فقال: « أتقول هذا في وجهه؟ » قال: « نعم. » قال الرشيد: « عليّ بيحيى. » فدخل فأعاد القول بحضرته. فقال يحيى:
« والله يا أمير المؤمنين، قد جاء بشيء لو قبل لمن هو دونك فيمن هو أكبر مني وهو قادر عليه لما أفلت منه أبدا، ولكن لي رحم وقرابة فلو أخّرت هذا الأمر ولم تعجل لكفيت مؤونتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك وإني أباهله بين يديك وتصبر قليلا. »
فقال: « يا عبد الله، قم فصلّ إن رأيت ذاك. » وقام يحيى فاستقبل القبلة وصلّى ركعتين خفيفتين، وصلّى عبد الله ركعتين. ثم برك يحيى وقال:
« ابرك. » ثم شبّك يمينه في يمينه، ثم قال:
« اللهمّ إن كنت تعلم أنّى دعوت عبد الله بن مصعب إلى الخلاف على هذا - ووضع يده عليه وأشار إليه - فأسحتنى بعذاب من عندك ولكنى إلى حولي وقوّتى، وإلّا فكله إلى حوله وقوّته وأسحته بعذاب من عندك، آمين ربّ العالمين.
فقال: « آمين ربّ العالمين. » فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: « قل كما قلت. » فقال عبد الله:
« اللهم إن كنت تعلم أنّ يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا، فكلنى إلى حولي وقوّتى وأسحتنى بعذاب من عندك، وإلّا فكله إلى حوله وقوّته وأسحته بعذاب من عندك، آمين ربّ العالمين. » وتفرّقا.
فأمر الرشيد بيحيى بن عبد الله فحبس في ناحية من الدار. فلمّا خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبي فعدّد عليه مننه على يحيى وأياديه عليه فكلّمه أبي بما لا يدفع به عن عصفور خوفا على نفسه، فأمرنا بالانصراف، فانصرفنا، فدخلت مع أبي أنزع عنه سواده، وكان ذلك من عادتي، فبينا أنا أحلّ منطقته إذ دخل عليه الغلام، فقال:
« رسول عبد الله بن مصعب. » فقال: « أدخله. » فدخل. وقال: