هروب محمد بن البعيث

وفيها هرب محمد بن البعيث بن حليس، وكان جيء به أسيرا من أذربيجان وحبس، وكانت له قلعتان تدعى أحداهما شاها والأخرى يكدر.
فأمّا شاها فهي وسط البحيرة وأمّا يكدر فهي خارج البحيرة وهذه البحيرة قدر عشرين فرسخا من حدّ أرمينية إلى بلاد محمد بن الروّاد، وشاها قلعة حصينة تحيط بها البحيرة ويركب فيها الناس من أطراف المراغة إلى أرمينية وغيرها. وكانت مدينة محمد بن البعيث مرند فهرب إلى مدينته فجمع بها الطعام وفيها عيون ماء فرمّ ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كلّ ناحية من ربيعة وغيرها فصار في نحو ألفى رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصّر في طلبه. فولّى المتوكّل حمدويه بن عليّ أذربيجان ووجّهه من سرّ من رأى على البريد.
فلمّا صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له فصار في عشرة آلاف. فزحف إلى ابن البعيث فألجأه إلى مدينة مرند وهي مدينة استدارتها فرسخان في داخلها بساتين كثيرة ومن خارجها كما تدور شجر إلّا في مواضع أبوابها. وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء.
فلمّا طالت مدّته وجّه إليه المتوكّل زيرك التركي في مائتي فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجّه المتوكّل عمر بن سليل بن كال في جماعة من الشاكرية فلم يغن شيئا.
فوجّه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركيّ وشاكريّ ومغربيّ، وقد كان الجند قد زحفوا إلى مدينة مرند وقطعوا ما حولها من الشجر فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة من شجر الغياض وغيره ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنّون فيه ونصب عليهم محمد بن البعيث من المجانيق مثل ذلك. وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنوّ من السور فكانوا يغادونه القتال ويراوحونه، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلّون بالجبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم أصحاب السلطان لجأوا إلى الحائط بالمقاليع وكانوا ربّما فتحوا بابا يقال له باب الماء فيخرج منه عدّة يقاتلون ثم يرجعون.
فلمّا قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل الشيبانى ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث ولابن البعيث على أن ينزلوا وينزل على حكم المتوكّل، وإلّا قاتلهم فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الأمان.
وكان عامّة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالجبال ونزل ختن ابن البعيث، ثم فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب حمدويه وزيرك وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهبوا منزله ومنازل أصحابه وأخذ له أختان وثلاث بنات وخالته والبواقي سراريّ ونحو مائتي رجل وهرب الباقون ووافاهم بغا فمنع من النهب وكتب بغا بالفتح لنفسه. ثم قدم بغا بابن البعيث وأصحابه وهم نحو مائتي رجل. فلمّا قربوا من سرّ من رأى حملوا على الجمال ليستشرفهم الناس. فأتى المتوكّل محمد بن البعيث فأمر بضرب عنقه فطرح على نطع، وجاء السيّافون فلوّحوا فقال المتوكّل:
« ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ » قال: « الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وخلقه وإنّ لي فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو. » ثم اندفع بلا فصل:
أبي الناس إلّا أنّك اليوم قاتلي ** إمام الهدى والعفو في الله أجمل
وهل أنا إلّا جبلة من خطيئة ** وعفوك من نور النّبوّة يجبل
فإنّك خير السابقين إلى العلى ** ولا شكّ أن خير الفعالين تفعل
فالتفت المتوكّل فقال لمن عنده:
« إنّ معه لأدبا. » فقال بعضهم وبادر:
« بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمنّ عليك. »
فقال المتوكّل:
« ارجع إلى منزلك. » ويقال إنّ ابن البعيث لمّا تكلّم بما تكلّم به شفع فيه المعتزّ واستوهبه فوهبه له.
وكان محمد بن البعيث أحد شجعان أذربيجان وله شعر كثير جيّد بالعربية والفارسية. وحجّ في هذه السنة إيتاخ وكان والى مكّة والمدينة والموسم، ودعى له على المنابر.
ذكر سبب ذلك

كان إيتاخ غلاما طبّاخا خزريّا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم، وكان لإيتاخ بأس ورجلة، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق وولّى الأعمال الكبار، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله حبس عند إيتاخ.
فلمّا ولى المتوكّل كان إلى إيتاخ الحبس والمغاربة والأتراك والبريد والحجابة ودار الخلافة. فخرج المتوكّل بعد الخلافة متنزّها إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على إيتاخ، فهمّ إيتاخ بقتله. فلمّا أصبح المتوكّل قيل له، فاعتذر إلى إيتاخ والتزمه وقال:
« أنت أبي وأنت ربّيتنى. » فلمّا صار المتوكّل إلى سرّ من رأى دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ففعل وأذن له وصيّره أمير كلّ بلدة يدخلها وخلع عليه وركب القوّاد معه، فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف.
ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين

وفيها كان مقتل إيتاخ
ذكر سبب مقتله

لمّا انصرف إيتاخ من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة وقد تقدّم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر إبراهيم بن المدبّر أنّه خرج مع إسحاق بن إبراهيم في تلقّى إيتاخ وكان أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ثم يخرج إلى سرّ من رأى.
فكتب إليه إسحاق:
« إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. » قال: فخرجنا حتى إذا كنّا بالياسريّة وقد شحن إسحاق بن إبراهيم الجسرين بالجند والشاكرية، وخرج في خاصّته وطرح له بالياسرية صفّة فجلس عليها وأقبل قوم قد رتّبهم في الطريق. كلّما صاروا إلى موضع أعلموه، حتى قالوا: