خروج الموفق لحرب صاحب الزنج

وخرج الموفّق من مدينة السلام قاصدا حرب صاحب الزنج وذلك حين بلغه أنّ صاحب الزنج كتب إلى صاحبه عليّ بن أبان المهلّبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد.
فأعدّ أبو أحمد الشذاءات وآلات الماء وسار في فرسانه ورجّالته وغلمانه إلى أن نزل على فرسخ من واسط فأقام هناك يوما وليلة، فتلقّاه أبو العباس ابنه في جريدة خيل فيها قوّاده ووجوه جنده فسأله أبوه عن خبر أصحابه فأثنى عليهم ووصف نصحهم وبلائهم، فخلع عليه وعليهم.
وانصرف أبو العباس إلى معسكره ورحل أبو أحمد من غد ذلك اليوم في الماء وتلقّاه أبو العباس وجميع الجند في هيئة الحرب ثم سار أمامه إلى أن نزل أبو أحمد ثم سار أبو أحمد وولّى ابنه أبا العباس مقدّمته ووضع العطاء فأعطى الجيش. ثم سار على تعبئة وأمامه أبو العبّاس فأتاه بأسرى.
وذلك أنّه وافى عسكرا للشعرانى قبل مجيء أبيه فأوقع به وقتل منه مقتلة عظيمة، فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسارى. ثم رحل أبو أحمد يريد مدينة صاحب الزنج التي سمّاها المنيعة من سوق الخميس بمن معه من الجيش وآلة الماء.
فلمّا رأى سليمان ومن معه من الزنج مسير الخيل والرجّالة على حافتي النهر قد ملؤوا الأرض ومسير الشذاءات والسميريّات في الماء انهزموا، وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا فيهم السيوف ودخلوا المدينة وقتلوا خلقا وأسروا خلقا وحووا ما في المدينة وهرب الشعراني واتبعوهم حتى وقعوا في البطائح وغرق منهم خلق ولجأ الباقون إلى الآجام، واستنقذ من المسلمات خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيّات، فأمر أبو أحمد بحفظهن ليدفعن إلى أوليائهن.
وبات أبو أحمد بإزائها فلمّا أصبح أمر بأخذ جميع ما فيها وهدم سورها وطمّ خندقها واحرق آلاتها وسفنها، وبلغ خبر الوقعة صاحب الزنج فعظمت مصيبته واشتدّ جزعه وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني ويأمره بالتيقّظ.
وتعرّف أبو أحمد خبر الشعراني فقيل: إنّه بالحوانيت، فأنفذ إليه جيشا فألفوا هناك قوّاده ولم يصادفوه فقتلوا قوّاده وانتهبوا هناك غلّات كثيرة.
وتعرّف أبو العباس خبر سليمان بن جامع فأعلم بمكانه من مدينته التي سمّاها: المعمورة، في الموضع الذي يعرف بطميشا فرحل إليها أبو أحمد بعد أن أصلح سفن الجسور واستكثر من الضياع والآلات التي يسدّ بها الأنهار والطرق للخيل وتوطئة الأرض لسلوكها.
دفن الجبائي وادعاء آخر لصاحب الزنج

وفي هذه السنة دخل أبو أحمد طميشا وأخرج منها سليمان بن جامع وقتل بها أحمد بن مهدى الجبّائى وذلك بعد حروب كثيرة.
ولمّا حمل الجبّائى إلى الخبيث اشتدّ جزعه عليه وصار إليه حتى ولى غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره حتى دفن ثم أقبل على أصحابه وقال:
« قد علمت بوفاته وقت قبض روحه قبل وصول خبره إليّ، بما سمعت من زجل الملائكة بالدعاء والترحّم عليه. » ثم إنّ أبا أحمد أمر أهل عسكره بالتحارس ليلتهم وصحّ سور المدينة بكتائب يتلو بعضها بعضا ورتّب غلمانه وأصحابه في المواضع التي يخشى خروج الزنج منها ورتّب الفرسان في المواضع التي يخاف خروج الكمناء منها وقدّم ابنه وتبعه بنفسه وحضّ الغلمان على الحرب وجسّرهم على الإقدام.
وقد كان حصّن الزنج السور بخمسة خنادق وجعلوا أمام كلّ خندق سورا ووكّلوا بها رجالهم فما أغنى جميع ذلك شيئا عند الجدّ، فهدمت الأسوار وطمّت الخنادق وهجم على الزنج وكلّ ذلك بالمصاولة من غير حيلة، سوى أنّ الموفّق كان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وخلع عليه وأقامه حيث يراه أصحابه حتى استمالهم وكثر في أصحابه منهم وكان يفوّقهم على أصحابه ويأمر بالإحسان إليهم حتى فتح المدينة وهدم أسوارها وحوى ما فيها.
ذهاب الموفق إلى الأهواز للإيقاع بالمهلبي

ثم رحل نحو الأهواز بعد أن أحكم ما أراد إحكامه ليوقع بالمهلّبي واستخلف على عسكره بواسط ابنه هارون وشخص في خفّ من رجاله وتقدّم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه في السفن إذا كاتبه بذلك وسار حتى أتى وادي السوس وقد عقد له عليه جسر فعبره ووافى السوس وكاتب مسرورا في المبادرة إليه فقدم عليه في جيشه فخلع عليه وعلى قوّاده وأقام ثلاثا.
وصلّت خيل الخبيث وانتقض عليه تدبيره فحمله فرط الهلع على أنّ كاتب المهلّبي وهو يومئذ بالأهواز في ثلاثين ألفا بترك ما قبله كلّه والإقبال إليه. فترك ما كان جمعه من المير والأموال والأثاث وصار إليه، واستخلف محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى، فوجل من المقام وخرج يتبع المهلّبي وكان يجبّى والأهواز يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم. فخرجوا عن ذلك كلّه جبنا وإدبارا فحوى جميعه الموفّق. فصار قوّة على الخبيث ولو أراد جمع ذلك في ذلك الوقت ما قدر على شيء منه.
وكتب أيضا الخبيث إلى بهبوذ وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما يتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه. فترك بهبوذ أيضا ما كان قبله من التمر والطعام وكان شيئا عظيما فحوى جميعه أبو أحمد وقوى به على الخبيث.
وتخلّف عن المهلّبي قوم من الفرسان والرجّالة وكتبوا إلى أبي أحمد يسألونه الأمان لما انتهى إليهم عفوه عن من ظفر به بطميشا فبذله لهم وأحسن إليهم.
وأمر الموفّق بجباية الأهواز من جميع كورها. ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكرديّ من يؤنسه وعفا عنه وتقدّم إليه في جمع الأموال وتعجيلها نحوه والمسير إليه، وتأخّرت الميرة عن أبي أحمد بالأهواز وغلظ الأمر فسأل عن السبب فوجد الجند قد قطعوا قنطرة قديمة كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها: قنطرة أرمق، فامتنع التجّار من حمل الميرة لأجل ذلك.
فركب إليها أبو أحمد وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في العسكر من السودان وأمرهم بنقل الصخر وبذل لهم الأموال فلم يرم حتى أصلحت القنطرة في يوم واحد وردّت كما كانت، فسلكها الناس ووافت الميرة والقوافل فعاش أهل العسكر وحسنت أحوالهم.
وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد جسر على دجيل فجمعت من جميع كور الأهواز الآلات.
فلما تمّ عقده وتراجعت نفوس الناس والدوابّ باتصال المير والأعلاف سار وقدّم أبا العباس إلى الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بأن يحدّر إليه جميع الجيش إلى نهر المبارك لتجتمع العساكر هناك.
ونزل أبو أحمد بقورج العباس ثم نزل الجعفرية وهذه قرية ليس فيها ماء إلّا ماء الآبار التي كان أبو أحمد تقدّم بحفرها في عسكره فحفرت له وكان أعدّ بها بئرا، فوافاها والأمور مصلحة معدّة، ثم رحل حتى ورد نهر المبارك، واستأمن قوم إلى أبي أحمد طمعا فيما بلغهم من إحسانه إلى المستأمنه فأبلغوه أنّ صاحب الزنج قد جمع آلات الماء وفيها خلق من السودان ليقصدوا نصيرا وهو بنهر المرأة ويسلكوا موضعا يخرجهم من ورائه. فأنفذ إلى نصير وأخبره بذلك فبادر نصير إلى شقّ بئرين، فلقى هناك القوم فزرق الظفر بعد مجاهدة عظيمة، فقتل وأسر وأخذ ثلاثين سميريّة. وانصرف أصحاب أبي أحمد ظافرين إلى واسط واستأمن إلى نصير زهاء ألفى رجل، فكتب بالخبر إلى أبي أحمد فأمره بقبولهم وإجراء الأرزاق عليهم وتفريقهم على أصحابه ومناهضة العدوّ بهم.
ثم كتب إليه بموافاته إلى نهر المبارك ففعل.
كتاب أبي أحمد إلى صاحب الزنج للأمان والتوبة مما ركب وادعى

وكتب أبو أحمد إلى الخبيث كتابا يدعوه إلى الدخول في الأمان والنزوع عمّا هو عليه من ادعاء النبوّة وسبى المسلمات والمسلمين والفساد في الأرض، فإنّ التوبة مبذولة له. وأطال الكتاب في هذا المعنى.
فلمّا وصل إلى الخبيث رمى بالكتاب من يده ولم يجبه بشيء، وأقام على إصراره فعرض أبو أحمد شذاءاته وجمع آلات الماء ورتب قوّاده ومواليه وتخيّر الرماة منهم فرتّبهم في الشذاءات وسار إلى مدينة الخبيث المسماة:
المختارة، في نهر أبي الخصيب فأشرف عليها وتأمّلها فرأى من حصانتها وأسوارها وخنادقها ووعورة الطرق المؤدية إليها من كلّ وجه وكثرة من أعدّ عليها من الرماة بالقسّى الناوكيّة والمجانيق والعرّادات وسائر الآلات ما لم ير مثله. فاستغلظ أمره واستعدّ الوصول إليه.
ولمّا عاين الزنج أبا أحمد ارتفعت ضجّتهم بما ارتجّت له الأرض وتقدّم إلى بعض الشذاءات أن تقرب من السور من قصر الخبيث فتتابعت سهامهم وأحجار منجنيقاتهم وغير ذلك من عرّاداتهم ومقاليعهم حتى ما كان يقع طرف ناظر من الشذاءات إلّا على سهم أو حجر فأمر أبو أحمد بردّ تلك الشذاءات ومعالجة من أصابه جرح أو وهن.