ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

وفيها انحدر وصيف خادم أبن أبي الساج إلى واسط بأمر أبي الصقر
ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك أنّ أبا الصقر أتلف ما في بيوت أموال أبي أحمد، حتى لم يبق فيها شيء، بالهبات والصلات العظام التي كان يجيز بها القوّاد، والخلع التي يخلعها عليهم. فاستدعى وصيفا هذا ليكون عدّة له إن طالبه أبو أحمد، وكان اصطنع وصيفا وأجازه بجوائز كثيرة وأدرّ على أصحابه أرزاقهم.
ولما نفد ما في بيوت الأموال طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضهم، وحبس بذلك جماعة وكان الذي يتولّى له ذلك المعروف بالزغل.
فعسف الناس وقدم الموفّق قبل أن يسنتظف أداء ذلك، فشغل عنه بقدومه.
انصراف أبي أحمد من الجبل إلى العراق

وانصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، فاشتدّ به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب. فاتّخذ له سرير عليه قبّة، فكان يقعد فيه ويجلس معه خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة وبالثلج. ثم صار به داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا يتناوب عشرون عشرون. فإذا اشتدّ به الألم أمرهم أن يضعوه. فقال يوما للذين يحملونه وقد سمع منهم ما يدلّ على ضجر:
« قد ضجرتم بحملي وبودّى إني كواحد منكم أحمل على رأسى وانّى في عافية. » وقال يوما:
« أطبق دفترى على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا مني. » ولمّا ورد النهروان تلقّاه الناس فركب الماء في النهروان ثم في نهر ديالى ثم في دجلة، ودخل داره لليلتين خلتا من صفر، فأرجف الناس بموته.
وكان تقدّم في حفظ أبي العباس فغلّقت عليه أبواب دون أبواب. وانصرف أبو الصقر إلى منزله واعترت أبا أحمد غشية فازداد إرجاف الناس بموته.
فحمل المعتمد ولده فجيء بهم إلى داره ولم يصر أبو الصقر إلى الموفّق. فلمّا رأى غلمان أبي أحمد المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بأبي أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبي العباس.
فذكر الغلام الذي كان مع أبي العباس في الحجرة أنّ أبا العباس لمّا سمع صوت الأقفال تكسر قال:
« إنّا لله، ما يريد هؤلاء إلّا نفسي. » فأخذ سيفا كان عنده وقعد مستوفزا، فلمّا فتح الباب كان أوّل من دخل إليه وصيف موشكير وهو غلامه. فلمّا رآه رمى بالسيف من يده وعلم انّهم لم يقصدوه إلّا بخير، فأخرجوه حتى أقعدوه عند أبيه، وكان أبوه بعقب علّته.
فلمّا فتح عينه بعد إفاقته رآه فقرّبه وأدناه.
ووافى المعتمد وقد كان وجّه إليه، فحضر ومعه ابنه جعفر المفوّض إلى الله وليّ العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه فنزل على أبي الصقر.
ثم بلغ أبا الصقر أنّ أبا أحمد لم يمت. فوجّه إسماعيل بن إسحاق يتعرّف له الخبر، وجمع أبو الصقر القوّاد والجند وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح. فرجع إسماعيل فأعلم أبا الصقر أنّ أبا أحمد حيّ. فأوّل من مضى إليه من القوّاد محمد بن أبي الساج. ثم جعل الناس يتسلّلون منهم من يعبر إلى باب أبي أحمد ومنهم من يرجع إلى منزله ومنهم من يخرج إلى بغداد.
فلمّا صحّ عند أبي الصقر حياة أبي أحمد انحدر هو وابناه إلى دار أبي أحمد فما ذاكره أبو أحمد. شيئا ممّا جرى ولا سأله عنه. وأقام هناك فانتهبت دار أبي الصقر وكلّ ما حوته حتى خرج حرمه حفاة بغير أزر وانتهبت دور كتّابه وأسبابه وكسرت أبواب السجون فأخرج من كان في المطبق وانتهب مجلسا الجسر. ثم خلع أبو أحمد على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر وركبا جميعا والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق ومضى أبو الصقر مع أبي العباس إلى دار صاعد. ثم انصرف إلى منزله فلم يجد فيه شيئا يجلس عليه حتى أتوه من دار الشاه بحصير فجلس عليه.
وولّى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة على الجانب الشرقيّ وعيسى النوشرى الجانب الغربيّ.
وفاة أبي أحمد الموفق

وفيها توفّى أبو أحمد الموفّق ودفن في الرصافة وجلس أبو العباس للتعزية وبايع الغلمان والقوّاد لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقّب بالمعتضد بالله، وأخرج العطاء للجند وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثم للمفوّض ثم للمعتضد.
وقبض على أبي الصقر وأسبابه وطلب بنو الفرات وكان إليهم ديوان السواد فاختفوا.
وخلع على عبد الله بن سليمان بن وهب وولّى الوزارة.
وبعث بمحمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد. فأبى وصيف ومضى إلى الأهواز فعاث بالسوس وأنهب الطيّب.
ابتداء امر القرامطة

وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة. وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان سواد الكوفة. فأظهر الزهد والتقشّف وكان يسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهّده في الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة في كلّ يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه.
ثم أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله فلم يزل على ذلك، يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما يعلّق قلوبهم.
وكان يقعد إلى بقّال في القرية بموضع يقال له: النهرين، وكان بالقرب من البقّال نخل اشتراه قوم من التجّار واتخذوا حظيرة فجمعوا فيها ما صرموا من النخل. وجاء التجّار إلى البقّال فسألوه أن يطلب لهم رجلا يحفظ ما صرموا من النخل فأومأ لهم إلى هذا الرجل وقال:
« إن أجابكم إلى حفظه فإنّه بحيث تحبّون. » فناظروه في ذلك فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة، وكان يحفظ لهم ويصلّى أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر. فلمّا حمل التجّار تمرهم صاروا إلى البقال فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته فدفعوها إليه فحاسب الأخير البقال علي ما أخذه من التمر وحطّ من ذلك ثمن النوى، ورآه أولياء التجّار فوثبوا عليه وضربوه وقالوا:
« ألم ترض أن أكلت تمرنا حتى بعت النوى؟ » فقال لهم البقّال:
« لا تفعلوا فإنّه ما مسّ تمركم. » وقصّ عليهم قصّته، فندموا على ضربهم إيّاه، وسألوه أن يجعلهم في حلّ، ففعل وازداد بذلك نبلا عندهم لما وقفوا عليه من زهده. ثم مرض فمكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على ثور له أحمر العينين، فكان أهل القرية يسمّونه كرميثه، وهو بالنبطية أى حارّ العينين فكلّم البقّال كرميثه هذا أن يحمل العليل إلى منزله ويوصى أهله بالإشراف عليه. ففعل وأقام عنده حتى برأ فكان يأوى إلى منزله.
ودعا أهل القرية ووصف لهم مذهبه، فأجابه أهل تلك الناحية. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا ويزعم أنّ ذلك للإمام فلمّا كثر أصحابه اتخذ منهم اثنى عشر نقيبا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينهم وقال لهم: « أنتم كحواريي عيسى بن مريم. »
فاشتغل أكرة تلك الناحية بالصلوات الخمسين التي وظّفها عليهم.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته في العمارة.
فسأل عن سبب ذلك فأخبر بخبر هذا الرجل وأنّه قد شغلهم بالصلاة فشغلهم عن أعمالهم. فوجّه إليه وجيء به فسأله عن أمره فأخبره. فحلف أنّه يقتله وأمر به فحبس في بيت وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته.
وتشاغل بالشرب. وسمع بعض من في داره من الجواري يمينه فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته وردّت المفتاح إلى موضعه. فلمّا أصبح الهيصم طلب الرجل فلم يجده وشاع الخبر ففتن به أهل تلك الناحية وقالوا:
« رفع. » ثم ظهر في موضع آخر، فقصده قوم من أصحابه، فسألوه عن قصّته فكتمهم وقال:
« ليس يمكن أحدا من البشر أن يبدأنى بسوء. » فعظم في عيونهم.
ثم خاف على نفسه فخرج إلى الشام فلم يعرف له خبر. وسمّى باسم الرجل الذي كان في منزله: كرميثه ثم عرّب وخفّف فقيل قرمط. ثم كثر مذهبه بسواد الكوفة.
ووقف أحمد بن محمد الطائي وكان إليه النظر في سواد الكوفة على أمرهم فوظّف على كلّ رجل منهم في كلّ سنة دينارا فكان يجيء ذلك فيجتمع له منه مال جليل.
ثم قدم الكوفة قوم من الكوفة، فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة وانّهم قد أحدثوا دينا غير الإسلام، وانّهم يرون السيف في أمّة محمد إلّا من تابعهم على دينهم، وأنّ الطائي يخفى أمرهم عن السلطان فلم يلتفت إليهم.
مذهبهم كما جاء في كتاب لهم

ثم جاءوا بكتاب فيه مذهبهم ونسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان: إنّه داعية إلى المسيح، وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهديّ وهو أحمد بن محمد الحنفية وهو جبرائيل. وحكى أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان وقال له: انّك الداعية وانّك الحجّة وانّك الناقة وانّك الدابّة وانّك روح القدس وانّك يحيى بن زكريا. ثم يوظّف صلاة ويقرأ فيها شيئا ليس من القرآن، ويذكر قبلة غير قبلة المسلمين، ويحكى أشياء عن لسان الإمام وينسب إلى الله أشياء ويحرّم النبيذ، وألّا غسل من جنابة، ولا صوم إلّا يومين في السنة: يوم النيروز ويوم المهرجان، وكلّ من حاربه وجب قتله. »