ورود خبر القافلة على السلطان

وورد الخبر بذلك على السلطان فاستعظم الناس جميعا ذلك.
وندب السلطان أيّوب بن محمّد بن داود صاحب الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج إلى الكوفة والمقام بها لإنفاذ الجيوش إلى القرمطي. فخرج وحمل أموالا كثيرة لإعطاء الجند.
ثم سار زكرويه إلى زبالة فنزلها وبثّ الطلائع أمامه ووراءه خوفا من أصحاب السلطان المقيمين بالقادسيّة أن يلحقوه ومتوقّعا ورود القافلة الثالثة التي فيها الأموال والتجار.
ثم ساروا إلى الثعلبيّة ثم إلى الشقوق وأقام هناك ينتظر القافلة وفيها جماعة من القوّاد: نفيس وصالح ومعه الشمسة. وكان المعتضد جعل في الشمسة جوهرا نفيسا. وكان في القافلة جماعة من وجوه الكتّاب وغيرهم.
فلمّا صار أهل هذه القافلة إلى فيد بلغهم خبر زكرويه وأصحابه، فأقاموا بفيد أيّاما ينتظرون تقوية لهم من قبل السلطان.
وصار زكرويه إلى فيد وبها عامل السلطان. فلجأ منه إلى أحد حصنيها مع مائة رجل وشحن الحصن الآخر بالرجال. فجعل زكرويه يراسل أهل فيد في أن يسلّموا عاملهم ومن فيهم من الجند وأنّهم إن فعلوا ذلك آمنهم فلم يجيبوه إلى ما سأل، فحاربهم فلم يظفر منهم بشيء. فتنحّى إلى النّباج ثم إلى حفر أبي موسى.
ثم أنهض المكتفي وصيف بن صوراتكين ومعه من القوّاد جماعة إليه، فلقيه يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل. فاقتلوا يومهم ثم حجز بينهم الليل، فباتوا ليلتهم يتحارسون. ثم عاودهم القتال فظفر بهم جيش السلطان فقتل منهم مقتلة عظيمة وخلصوا إلى زكرويه فضربه بعض الجند بالسيف، وهو مولّ على قفاه، ضربة اتصلت بدماغه. فأخذ أسيرا وخليفته وجماعة من أقربائه وخاصّته فيهم ابنه وكاتبه وزوجته. وعاش زكرويه خمسة أيّام ثم مات، فشقّ ثم حمل بهيئته. وانصرف وصيف بمن كان حيّا في يده من الأسرى ثم التقطت القرامطة واستأمن قوم منهم.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائتين

وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن إصبهان في نحو عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم مظهرا الخلاف على السلطان.
وفيها توفّى أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد عامل خراسان وما وراء النهر وقام أحمد بن إسماعيل ابنه مقامه. وفيها عقد المكتفي بيده لواء لأحمد بن إسماعيل وحمله إليه.
وفيها روسل المسمعي وخوّف عاقبة الخلاف وأرعب فصار إلى باب السلطان. فرضي عنه المكتفي ووصله وخلع عليه.
وفاة المكتفي

وفيها توفّى المكتفي، فكانت خلافته ستّ سنين وستّة أشهر وتسعة عشر يوما وله اثنتان وثلاثون سنة، ويكنّى: أبا محمّد، وكان ربعة جميلا رقيق اللون حسن الشعرة وافر اللحية، وامتدّت علّته شهورا ودفن في دار ابن طاهر.
خلافة المقتدر بالله

وبويع جعفر بن المعتضد بالله وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكنيته أبو الفضل
ذكر ما جرى في ذلك

لمّا ثقل المكتفي في علّته فكّر العبّاس بن الحسن وهو الوزير في من يقلّده الخلافة وترجّح رأيه، وكان يركب من داره إلى دار السلطان ويسايره واحد من الأربعة الذين يتولّون الدواوين، وهم: أبو عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح، وأبو الحسن محمّد بن عبدون، وأبو الحسن بن الفرات، وأبو الحسن عليّ بن عيسى.
فركب معه محمّد بن داود فشاوره العبّاس، فأشار بأبي العبّاس عبد الله بن المعتزّ بالله فقرّظه ووصفه.
ثم ركب معه في اليوم الثاني أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات فشاوره.
فقال له:
« هذا شيء ما جرت به عادتي. » واستعفاه وقال:
« إنّما أشاور في العمّال. » فأظهر العبّاس غضبا وقال:
« هذه محاجزة وليس يخفى عليك. » وألحّ عليه فقال له:
« إن كان رأى الوزير قد تقرّر على إنسان بعينه فليستخر الله ويمضى عزمه. » قال ابن الفرات: فعلم أنّى قد عنيت ابن المعتزّ لاشتهار الخبر به فقال لي:
« ليس أريد منك إلّا أن تمحضنى النصيحة. » فقلت له:
« إذا أراد الوزير ذلك فإني أقول: اتق الله ولا تنصب في هذا الأمر من قد عرف دار هذا ونعمة هذا وبستان هذا وجارية هذا وضيعة هذا وفرس هذا، ومن لقي الناس ولقوه وعرف الأمور وتحنّك وحسب حساب نعم الناس. » قال: فاستعاد ذلك مني الوزير دفعات، ثم قال:
« في من تشير؟ » فقلت: « بجعفر بن المعتضد. » فقال: « ويحك جعفر صبيّ. »
قلت: « إلّا أنّه ابن المعتضد ولم تجيء برجل يأمر وينهى ويعرف ما لنا، وبمن يباشر التدبير بنفسه ويرى أنّه مستقلّ ولم لا تسلّم هذا الأمر إلى من يدعك تدبّره أنت. » ثم شاور أبا الحسن عليّ بن عيسى في اليوم الثالث واجتهد به أن يسمّى له أحدا، فامتنع وقال:
« أنا لا أشير بأحد، ولكن ينبغي أن يتّقى الله وينظر للدين. » فمالت نفس العبّاس بن الحسن إلى رأس أبي الحسن ابن الفرات ووافق ذلك ما كان المكتفي عهد به من تقليد أخيه جعفر الخلافة.
فلمّا مات المكتفي آخر نهار يوم السبت الثاني عشر من ذي القعدة، نصب الوزير العبّاس جعفرا في الخلافة على كراهية منه لصغر سنه.
ومضى صافى الحرمي فحدره من دار ابن طاهر. فلمّا اجتازت الحراقة التي حدر فيها وانتهت إلى [ دار ] العبّاس بن الحسن صاح غلمان العبّاس بالملّاح أن: ادخل. فوقع لصافى الحرمي أنّ العبّاس إنّما يريد أن يدخله إلى داره لتغيّر رأيه فيه وأشفق أن يعدل عنه إلى غيره، فمنع الملّاح من الدخول وجرّد سيفه وقال للملّاح:
« إن دخلت رميت برأسك. » فانحدر وجها واحدا إلى دار السلطان.
وثم أمر جعفر ولقبّ: المقتدر بالله. وأطلق السلطان يد العبّاس فأخرج المال للبيعة.
وحكى القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي: أنّ القاضي أبا عمر محمّد بن يوسف حدّثه أنّ العبّاس بعد إتمامه أمر المقتدر استصباه، وكثر كلام الناس. فعمل على أن يحلّ أمره ويقلّد أبا عبد الله محمّد بن المعتمد على الله. وكان أبو عبد الله بن المعتمد حسن الفعل جميل المذاهب، فوسّط الوزير أمره بينه وبينه القاضي أبا عمر وسامه اليمين، فقال ابن المعتمد:
« إن لم تصحّ نيّته لم تغن فيه اليمين وإن صحّت استغنى عنها وله الله راع وكفيل، على أنى لا أغدر به ولا أنكبه. » وكان العبّاس ينتظر بأمره قدوم بارس الحاجب غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، فإنّه كان ورد كتابه وقدّر أنّه يستظهر به وبمن معه على غلمان المعتضد. فتمادت الأيّام بقدوم بارس ووقع بين ابن عمرويه صاحب الشرطة ببغداد وبين أبي عبد الله محمّد بن المعتمد منازعة فاجتمعا يوما في مجلس الوزير العبّاس بن الحسن وجرى بينهما خطاب فأربى عليه ابن عمرويه في الكلام، ولم يكن علم بما رشّح له، ولم يمكن أبا عبد الله أن ينتصف منه لمحله، فاغتاظ غيظا شديدا كظمه فغشى عليه وفلج في المجلس. فاستدعى العبّاس عمارية وأمر بحمله فيها إلى داره، فحمل ولم يلبث أن مات. فعمل العبّاس على تقليد أبي الحسين من ولد المتوكّل على الله مكانه. فمات أيضا وتمّ أمر المقتدر.
ودخلت سنة ستّ وتسعين ومائتين

وفيها كانت فتنة عبد الله بن المعتزّ
ذكر الخبر عن ذلك

كان التدبير وقع بين محمّد بن داود بن الجرّاح مع الحسين بن حمدان على إزالة أمر المقتدر بالله ونصب عبد الله بن المعتزّ مكانه، وواطأ على ذلك جماعة من القوّاد والكتّاب والقضاة. فركب يوما العبّاس بن الحسين يريد بستانه المعروف ببستان الورد، فاعترضه الحسين بن حمدان وعلاه بالسيف وقتله. وكان إلى جانبه فاتك المعتضدي يسايره فصاح بالحسين منكرا عليه، فعطف عليه الحسين وقتله.
واضطرب الناس، وركض الحسين بن حمدان قاصدا إلى الحلبة مقدّرا أن المقتدر هناك يضرب بالصوالجة فيقتله فلمّا سمع المقتدر الضجّة بادر بالدخول إلى داره وغلّقت الأبواب دون الحسين، فانصرف إلى الدار المعروفة بسليمان بن وهب بالمخرّم، وبعث إلى عبد الله ابن المعتزّ يعرّفه تمام التدبير فنزل عبد الله من داره التي على الصراة وعبر إلى المخرّم، وحضر القوّاد والجند وأصحاب الدواوين وفيهم عليّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون، وحضر القضاة ووجوه الناس سوى أبي الحسن ابن الفرات وخواص المقتدر فبايع من حضر عبد الله بن المعتزّ وخوطب بالخلافة وانعقد له الأمر ولقّب:
المرتضى بالله.
واستوزر أبا عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح وقلّد عليّ بن عيسى الدواوين والأصول ومحمّد بن عبدون دواوين الأزمّة، ونفذت الكتب إلى الأمصار كلّها عن عبد الله بن المعتزّ، ووجّه إلى المقتدر بالله يأمره بالانصراف إلى دار ابن طاهر مع والدته لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجيب بالسمع والطاعة.
وعاد الحسين بن حمدان من غد إلى دار الخلافة فقاتله من فيها من الخدم والغلمان والحشم ومن كان هناك من الرجّالة من وراء السور، ودفعوه عن الدار. فانصرف في آخر النهار وحمل ما قدر عليه من ماله وحرمه وولده، وسار بالليل إلى الموصل، ولم يكن بقي مع المقتدر من رؤساء القوّاد غير مونس الخادم ومونس الخازن وغريب الخال والحاشية.
فلمّا راسل ابن المعتزّ المقتدر بالانصراف إلى دار ابن طاهر، قالت هذه الجماعة بعضها لبعض:
« يا قوم، نسلّم الأمر هكذا، لم لا نجرّد أنفسنا في دفع ما قد أظلّنا؟