









واجتمع معه على هذه الحال أبو عليّ هارون بن عبد العزيز الأوارجى الكاتب الأنبارى وقد كان عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلّاج وحيله فيه وهو موجود في أيدى جماعة والحلّاج حينئذ مقيم في دار السلطان موسّع عليه مأذون لمن يدخل إليه وهو عند نصر الحاجب.
وللحلّاج اسمان: أحدهما الحسين بن منصور والآخر محمّد بن أحمد الفارسي، وكان استهوى نصرا وجاز عليه تمويهه وانتشر له ذكر عظيم في الحاشية فبعث به المقتدر إلى عليّ بن عيسى ليناظره فأحضر مجلسه وخاطبه خطابا فيه غلظة فحكى أنّه تقدّم إليه وقال له فيما بينه وبينه:
« قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئا وإلّا قلبت عليك الأرض. » وكلاما في هذا المعنى. فتهيّب عليّ بن عيسى مناظرته واستعفى منه ونقل حينئذ إلى حامد بن العبّاس.
الحلاج وبنت السمري
وكانت بنت السمرّى صاحب الحلّاج قد أدخلت إلى الحلّاج وأقامت عنده في دار السلطان مدّة وبعث بها إلى حامد ليسألها عمّا وقفت عليه من أخباره وشاهدته من أحواله.
فذكر أبو القاسم بن زنجي أنّه حضر دخول هذه المرأة إلى حامد بن العبّاس وأنّه حضر ذلك المجلس أبو عليّ أحمد بن نصر البازيار من قبل أبي القاسم ابن الحوارى ليسمع ما تحكيه. فسألها حامد عمّا تعرفه من أمر الحلّاج، فذكرت أنّ أباها السمرّى حملها إليه وأنّها لمّا دخلت إليه وهب لها أشياء كثيرة عدّدت أصنافها.
قال أبو القاسم: وهذه المرأة كانت حسنة العبارة عذبة الألفاظ مقبولة الصورة فكان ممّا أخبرت عنه أنّه قال لها:
« قد زوّجتك من سليمان ابني وهو أعزّ أولادى عليّ وهو مقيم بنيسابور وليس يحلو أن يقع بين المرأة والرجل كلام أو تنكر منه حالا من الأحوال وأنت تحصلين عنده وقد وصّيته بك فإن جرى منه شيء تنكرينه فصومي يومك واصعدي آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد والملح الجريش واجعلي فطرك عليهما واستقبليني بوجهك واذكري لي منه ما تنكرينه منه، فإني أسمع وأرى. » قالت: وأصبحت يوما وأنا أنزل من السطح إلى الدار ومعي ابنته وكان قد نزل هو فلمّا صرنا على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت لي ابنته:
« اسجدي له. » فقلت لها:
« أو يسجد أحد لغير الله؟ » قالت: فسمع كلامي لها فقال:
« نعم، إله في السماء وإله في الأرض. » قالت: ودعاني إليه وأدخل يده في كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعه إليّ ثم أعادها ثانية إلى كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعها إليّ وفعل ذلك مرات ثم قال:
« واجعلي هذا في طيبك فإنّ المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إلى الطيب. » قالت: ثم دعاني وهو جالس في بيت على بواري فقال:
« ارفعى جانب البارية من ذلك الموضع وخذي ممّا تحته ما تريدين. » وأومأ إلى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية فوجدت تحتها الدنانير مفروشة ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك. فأقيمت المرأة وحصلت في دار حامد إلى أن قتل الحلّاج.
الجد في طلب أصحاب الحلاج
وجدّ حامد في طلب أصحاب الحلّاج وأذكى العيون عليهم وحصل في يده منهم حيدرة والسمرّى ومحمّد بن عليّ القنّاى والمعروف بأبي المغيث الهاشمي، واستتر ابن حمّاد وكبس منزله فأخذت منه دفاتر كثيرة وكذلك من منزل محمّد بن عليّ القنّاى فكانت مكتوبة في ورق صينى وبعضها مكتوب بماء الذهب مبطّنة بالديباج والحرير مجلّدة بالأدم الجيّد. ووجد في أسماء أصحابه ابن بشر وشاكر. فسأل حامد من حصل في يده من أصحاب الحلّاج عنهما فذكروا أنّهما داعيان له بخراسان.
قال أبو القاسم بن زنجي: فكتبا في حملهما إلى الحضرة أكثر من عشرين كتابا فلم يرد جواب أكثرها. وقيل فيما أجيب عنه منها: إنّهما يطلبان ومتى حصلا حملا، ولم يحملا إلى هذه الغاية.
وصاياه للدعاة إليه
وكان في الكتب الموجودة له عجائب من مكاتبات أصحابه النافذين إلى النواحي وبوصيته إيّاهم بما يدعون إليه الناس وبما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى حال أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى وأن يخاطبوا كلّ قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إلّا من كتبها ومن كتبت إليه.
كلام غريب من غلام حامد في الحلاج
وحكى أبو القاسم بن زنجي قال: كنت أنا وأبي يوما بين يدي حامد إذ نهض من مجلسه وخرجنا إلى دار العامّة وجلسنا في رواقها وحضر هارون بن عمران الجهبذ بين يدي أبي ولم يزل يحادثه فهو في ذلك إذ جاء غلام حامد الذي كان موكّلا بالحلّاج وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه فنهض مسرعا ونحن لا ندري ما السبب، فغاب عنّا قليلا ثم عاد وهو متغير اللون جدّا فأنكر أبي ما رأى منه فسأله عن خبره فقال:
« دعاني الغلام الموكّل بالحلّاج فخرجت إليه فأعلمني أنّه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسمه أن يقدّم إليه في كلّ يوم فوجده قد ملأ البيت بنفسه فهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه حتى ليس فيه موضع. فهاله ما رأى ورمى بالطبق من يده وعدا مسرعا وأنّ الغلام ارتعد وانتفض وحمّ.
فبينا نحن نتعجب من حديثه إذ خرج إلينا رسول حامد وأذن في الدخول إليه فدخلنا وجرى حديث الغلام فدعا به وسأله عن خبره فإذا هو محموم، وقصّ عليه قصّته فكذّبه وشتمه وقال:
« فزعت من نيرنج الحلّاج - وكلاما في هذا المعنى - لعنك الله اعزب عني. »
كيف حل دم الحلاج
فانصرف الغلام وبقي على حالته من الحمّى مدّة طويلة. ثم وجد حامد كتابا من كتبه فيه:
« إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ فلم يمكنه أفرد في بيته بناء مربعا لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يتطرّقه أحد. فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله وقضى من المناسك ما يقضى بمكّة، ثم يجمع ثلاثين يتيما ويعمل لهم أسرى ما يمكنه من الطعام ويحضرهم ذلك البيت ويقدّم لهم ذلك الطعام ويتولّى خدمتهم بنفسه، ثم يغسل أيديهم ويكسو كلّ واحد منهم قميصا ويدفع إلى كلّ واحد سبعة دراهم أو ثلاثة دراهم - الشكّ من أبي القاسم بن زنجي - وإنّ ذلك يقوم له مقام الحجّ. » قال: وكان أبي يقرأ هذا الكتاب فلمّا استوفى هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلّاج وقال له:
« من أين لك هذا. » قال: « من كتاب الإخلاص للحسن البصري. » قال له أبو عمر:
« كذبت يا حلال الدم. » قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكّة وليس فيه شيء ممّا ذكرت. فكلّما قال له أبو عمر: « يا حلال الدم » قال له حامد:
« أكتب ما قلت. » فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلّاج فلم يدعه حامد يتشاغل وألحّ عليه إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه وكتب بعده من حضر المجلس. فلمّا تبيّن الحلّاج الصورة قال:
« ظهري حمى ودمى حرام وما يحلّ لكم أن تتأوّلوا عليّ بما يبيحه.
اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنّة، ولى كتب في الورّاقين موجودة في السنّة، فالله الله في دمى. »
كتاب القوم وجواب المقتدر
ولم يزل يردّد هذا القول والقوم يكتبون خطوطهم حتى كمل الكتاب بخطوط من حضر فأنفذه حامد إلى المقتدر بالله.
فخرج الجواب:
« إذا كان فتوى القضاة فيه بما عرضت فأحضره مجلس الشرطة واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه، ثم اضرب رقبته وانصب رأسه وأحرق جثّته. » فأحضر حامد صاحب الشرطة وأقرأه التوقيع وتقدّم إليه بتسلّم الحلّاج وإمضاء الأمر فيه. فامتنع من ذلك، وذكر أنّه يتخوّف أن ينتزع من يده.
فوقع الاتفاق على أن يحضر بعد العتمة ومعه جماعة من غلمانه وقوم على بغال يجرون مجرى الساسة ليجعل على بغل منها ويدخل في غمار القوم. وأوصاه بأن لا يسمع كلامه. وقال له:
« لو قال لك: أجرى لك دجلة والفرات ذهبا وفضّة فلا ترفع عنه الضرب حتى تقتله كما أمرت. »
تنفيذ أمر المقتدر في الحلاج
ففعل محمّد بن عبد الصمد صاحب الشرطة ذلك وحمله تلك الليلة على الصورة التي ذكرت وركب غلمان حامد معه حتى أوصلوه إلى الجسر وبات محمّد بن عبد الصمد ورجاله حول المجلس.
فلمّا أصبح يوم الثلاثاء لستّ بقين من ذي القعدة أخرج الحلّاج إلى رحبة المجلس واجتمع من العامّة خلق كثير لا يحصى عددهم وأمر الجلّاد بضربه ألف سوط فضرب وما تأوّه ولا استعفى.
قال: فلمّا بلغ ستمائة سوط قال لمحمّد بن عبد الصمد:
« ادع بي إليك فإنّ عندي نصيحة تعدل عند الخليفة فتح قسطنطينية. » فقال: « قد قيل لي إنّك ستقول هذا وما هو أكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل. » فسكت حتى ضرب ألف سوط ثم قطعت يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم ضرب عنقه وأحرقت جثّته ونصب رأسه على الجسر، ثم حمل رأسه إلى خراسان.
وادّعى أصحابه أنّ المضروب كان عدوّا للحلّاج ألقى شبهه عليه. وادّعى بعضهم أنّه رآه وخاطبه في هذا المعنى بجهالات لا يكتب مثلها. وأحضر الورّاقون وأحلفوا أن لا يبيعوا شيئا من كتب الحلّاج ولا يشتروها.
ودخلت سنة عشر وثلاثمائة
إطلاق يوسف بن أبي الساج والعقد له على أعمال
وفيها إطلاق يوسف بن أبي الساج بمسألة مونس المظفّر من الحبس وشفاعته ثم حمل إليه مال وكسوة ثم وصل إلى المقتدر بالله وكان ركب في سواد فقبّل البساط ثم يد المقتدر وخلع عليه خلع الرضا وحمل على فرس بمركب ذهب.
ثم جلس المقتدر في دار العامّة بعد أيّام وعقد له على أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بالري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان وركب معه مونس المظفّر ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وجميع من بالحضرة من القوّاد والغلمان وكانت الدار قد شحنت له بالرجال والسلاح واحتشد له.
واستكتب يوسف بن أبي الساج محمّد بن خلف النيرمانى وقوطع عن الأعمال التي تقلّدها على خمسمائة ألف دينار محمولة في كلّ سنة على أنّ عليه القيام بمال الجيش الذي في هذه الأعمال والنفقات الراتبة. وخلع على وصيف البكتمرى وعلى طاهر ويعقوب ابني محمّد بن عمرو بن الليث.
من بعض حوادث السنة
وفيها قلّد نازوك الشرطة ببغداد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع على وصيف البكتمرى خلعة أخرى وضمّ إلى يوسف بن أبي الساج وشخص يوسف بن أبي الساج إلى عمله على طريق الموصل، فلمّا وصل إلى أردبيل وجد غلامه سبك قد مات.
وفيها وصل إلى بغداد هدية أبي زنبور الحسين بن أحمد المادرائى من مصر وفيها بغلة معها فلوّ وكان يتبعها ويرتضع منها وغلام طويل اللسان يلحق طرف أرنبته.
وفيها قبض على أمّ موسى القهرمانة وعلى أختها وأخيها
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أمّ موسى زوّجت بنت أخيها أبي بكر أحمد بن العبّاس من أبي العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان من أولاد الخلفاء النجباء وكانت له نعمة حسنة ظاهرة وكان حسن المروءة واللبسة والدوابّ والمراكب، وكان صديقا لعليّ بن عيسى حتى قيل: إنّه كان يرشّحه للخلافة.
فلمّا وقعت المصاهرة بينه وبين أمّ موسى أسرفت فيما نثرت من المال وفيما أنفقت على دعوات دعت فيها الصغير والكبير من أهل المملكة في بضعة عشر يوما. فتمكّن أعداؤها من السعى عليها ومكّنوا في نفس المقتدر بالله ووالدته السيدة أنّها إنّما صاهرت ابن المتوكّل ليزيلوا المقتدر بالله عن الخلافة وينصبوا فيها ابن المتوكّل.
فتمّت النكبة عليها وسلّمت إلى ثمل القهرمانة مع أختها وأخيها. وكانت ثمل موصوفة بالشر لأنّها كانت قهرمانة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وكان أحمد يسلّم إليها من يسخط عليه من جواريه وخدمه فاشتهرت بالقسوة والسرف في العقوبات.
واستخرجت ثمل منها ومن أختها وأخيها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة ومن الثياب والكسوة والفرش والطيب ما يعظم مقداره حتى نصب عليّ بن عيسى لذلك ديوانا وسمّاه: ديوان المقبوضات عن أمّ موسى وأسبابها، أجرى فيها أمر ضياعهم وأملاكهم وقلّده أبا شجاع المعروف بابن أخت أبي أيّوب أبي الوزير وقلّد الزمام عليه أبا عبد الله اليوسفى الكاتب. ويقال: إنّه حصل من جهتهم نحو ألف ألف دينار.
ولمّا قبض على أمّ موسى صرف عليّ بن عيسى ابن أبي البغل عن أعماله بفارس وقلّدها أبا عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي وصادره. ثم لمّا تقلّد ابن الفرات الوزارة الثالثة كتب إلى الكرخي بتجديد مصادرة ابن أبي البغل واعتقاله.
ذكر وفاة محمد بن جرير الطبري
وفيها توفّى محمّد بن جرير الطبري وله نحو تسعين سنة، ودفن ليلا، لأنّ العامّة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادّعت عليه الرفض ثم ادّعت عليه الإلحاد.
وفيها دعا المقتدر مونسا المظفّر فشرب بين يديه وخلع عليه خلع منادمة وكانت مثقلة بالذهب.
ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
وفيها صرف حامد بن العبّاس عن الوزارة وعليّ بن عيسى عن الدواوين.
ذكر صرف حامد بن علي بن عيسى ورد الوزارة إلى ابن الفرات
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)