« ما أدفع رجلته ولا أنكر دربته ولكنّه رجل من أهل النار يقدم على الدماء ومكاره الناس. » قال ثابت في كتابه في التاريخ: ومن أعجب العجب أن يقول أبو الحسن ابن الفرات هذا القول ويصدّق قول حامد ويستجيده ويقول إنّه بأفعاله القبيحة من أهل النار وهو لا ينكر مع كرم طبعه وجلالة قدره وسلامة أخلاقه وإيثاره الإحسان إلى كلّ أحد على المحسّن ابنه طرائقه المنكرة وأفعاله العظيمة التي أنكرها على حامد بن العبّاس وقد زاد عليها للواحد واحدا ولا ينهاه ولا يعظه بما لحق حامدا فيرجع ويكون السعيد الذي وعظ بغيره فإنّ من يقدم على الله تعالى على بصيرة وبعد التنبيه والتذكير خلاف من يقدم وهو مغترّ غافل.
ثم راسل ابن الفرات حامد بن العبّاس في الإقرار بماله بمائتي ألف دينار منها المائة التي كانت له عند إبراهيم جهبذه، لأنّه قد كان وقف على حصول هذا المال من جهة الجهبذ في يد ابن الفرات.
وأخذ المحسّن شيئا آخر من جهة مونس خادمه إلى حضرة المقتدر بالله، وكتب إليه أنّه أخذ ذلك عفوا بغير مناظرة ولا مكروه وأطمع المقتدر من جهة حامد في أموال كثيرة واستخرج من مونس بعد ذلك بعد مكروه كثير أربعين ألف دينار وصودر جماعة من حاشيته بأموال أخر.
واستحضر ابن الفرات حامد بن العبّاس بحضرة الفقهاء والقضاة والكتّاب وناظره مناظرة طالت واستوفى حامد حججه إلى أن أخرج ابن الفرات عملا وجده في صناديق غريب غلام حامد. وكان هذا الغلام يتولّى لحامد بيع غلّاته في الفرضة، فواقف حامدا عليه وأحضر غريبا فاعترف بذلك العمل وكان حمله سهوا منه، لأنّ حامدا كان في كلّ سنة يجمع جميع حسباناته ويغرّقها في دجلة.
فلمّا جرى المقدار على حامد بما جرى أنسى أن يطلب من هذا الغلام هذا العمل وكان في جملة الظهور. فكان ما ثبت في ذلك العمل من أثمان الغلّات لسنة واحدة خمسمائة ألف دينار ونيّفا وأربعين ألف دينار سوى شعير الكراع المحمول إلى الحضرة.
فبان أنّ في الضمان من الفضل أكثر من الضعف وظهر أيضا أنّ أسعار تلك السنة الثانية في العمل أسعار مناقصة وأنّ أسعار السنين التي بعدها بأسرها أزيد، واتّجهت حجّة ابن الفرات على حامد وأخذ ابن الفرات خطوط القضاة والكتّاب وشفيع اللؤلؤي بما ظهر من الحجّة على حامد.
وكان ابن الفرات يرفق في المناظرة ولا يسمعه ولا يخرق به ولا يزيد على إيجاب الحجّة عليه ويدعه حتى يستوفى منه لنفسه الحجّة.
وكان المحسّن ابنه يشتمه بحضرة الناس أقبح شتم ويقول:
« ليس يخرج المال منك إلّا مثل المكاره التي كنت تجريها على الناس. »
ويقول: « إني أعطى خطّى إن سلّم مني أن أستخرج منه ألفي ألف دينار معجّلة ويبذل دمه إن لم يف بذلك. » ويستكفّه أبوه وينهاه عن الشتم فلا ينتهى. فقال حامد:
« أيّها الوزير قد أكثر من شتمي واحتملته وليس الاحتمال له وإنّما أكرم مجلس الوزير وليس بعد الحال التي أنا فيها شيء يخاف أعظم من القتل فلو لا ما يلزمني من توقير مجلس الوزير لرددت عليه. » فحلف أبو الحسن لئن عاد المحسّن لشتم حامد ليستعفينّ الخليفة من مناظرته. فحينئذ أمسك عن الشتم ثم أعاده إلى المناظرة مرّات وكان يحصل في آخره أنّه لا مال له وكان قد باع ضياعه ومستغلاته وفرشه وداره ولم يبق له حيلة.
فلمّا أعيت ابن الفرات الحيلة فيه خلا به في داره من دور حرمه من حيث لم يحضر معهما أحد من خلق الله ورفق به وحلف له على أنّه إن صدقه عن أمواله وذخائره لم يسلّمه إلى المحسّن ولم يخرجه عن داره وحفظ نفسه. فإمّا أقام في داره مكرما وإمّا خرج إلى فارس متقلّدا لها أو إلى أيّ بلد أحبّ مع خادم من خدم السلطان يحفظ نفسه، ووكّد اليمين على ذلك. ثم قال له:
« أنت تعلم أنّك ضمنتنى من أمير المؤمنين لأسلّم إليك فافتديت نفسي بسبعمائة ألف دينار وأقررت بها عفوا من مالي حتى سلمت منك وأنت فقد تناسيت كلّ جميل فعلته وفعله أخي بك، والخليفة الآن مقيم على أن يسلّمك إلى المحسّن وهو حدث وقد أسلفته من المكاره ما لم يستعمله أحد مع وزير ولا مع ولد وزير، وأنا أرى لك أن تفتدى نفسك بمالك حتى تلحقك الصيانة من التسليم إلى المحسّن. » ووكّد له الأيمان.
فعند ذلك ركن حامد إلى قوله ويمينه وأقرّ له من الدفائن في البلاليع احتفرها وتولّى هو بنفسه دفن المال فيها بخمسمائة ألف دينار، وأقرّ بأنّ له عند جماعة من الوجوه والشهود نحو ثلاثمائة ألف دينار وأقرّ بأنّ له كسوة وطيبا مودعة بواسط.
فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وبادر بالركوب إلى المقتدر من غير أن يحضر معه المحسّن ولا عرّفه شيئا من الخبر.
فسرّ المقتدر بذلك ووعده أن يسلّم إليه كلّ من ضمنه من نصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وغيرهما وأشار ابن الفرات بإنفاذ شفيع لتسلّم هذا المال بواسط. فخرج شفيع فوجد تلك الأموال المدفونة واستخرج تلك الودائع وصار بها إلى المقتدر بالله.
وما زال حامد في دار ابن الفرات مصونا إلى أن توصّل المحسّن إلى المقتدر بالله على يد مفلح، فالتمس منه أن يوقّع إلى أبيه بأن يستخلفه على سائر الدواوين وجميع أمر المملكة. فتردّد مفلح برسائل من المقتدر بالله إلى أبي الحسن ابن الفرات وتنكّر ابن الفرات لابنه وجرت فيه ألوان مناظرات إلى أن خلع على المحسّن وركب معه أبوه والقوّاد ثم انصرف أبوه إلى داره ومضى المحسّن إلى داره.
ثم ركب المحسّن مع أبيه إلى دار السلطان وخاطب الخليفة بحضرة أبيه وقال:
« قد بقيت على حامد جملة وافرة من مال مصادرته، وإن سلّم إليّ استخرجت منه خمسمائة ألف دينار. » فأمر المقتدر أبا الحسن بتسليمه إليه. فقال ابن الفرات:
« قد عاهدته أن لا أسلّمه إليه. » فراجع المحسّن المقتدر إلى أن أمر المقتدر أمرا لم يمكن أبا الحسن مخالفته فيه. فسلّمه إليه وحمله المحسّن إلى داره وطالبه وأوقع به مكروها وأقام حامد على أنّه لم يبق له مال ولا حال، فأمر بصفعه فصفع خمسين صفعة وسقط كالمغشى عليه وما زال يصفع إلى أن تكلّم وقال:
« أيّ شيء تريد مني؟ » قال: « أريد المال. » قال: « ما بقي غير ضيعتي. » قال: « فاكتب بوكالة لابن مكرم - وكان أحمد بن كامل القاضي حاضرا - تقرّ فيها أنّك قد وكّلته في بيعها. » فكتب ذلك ووقعت الشهادة على حامد.
ثم إنّ المحسّن عامله بعد ذلك بمعاملة تجرى مجرى السخف من إذلاله والوضع منه. ثم سلّمه إلى خادم له مع خمسة من الفرسان وعشرة من الرجّالة ليحدروا به إلى واسط، ويبيع ضياعه وأملاكه.
وشاع ببغداد أنّ حامدا طلب ليلة انحداره بيضا فحمل إليه وتحسّى منه وقت إفطاره عشر بيضات، وأنّ خادم المحسّن الموكّل به طرح فيه سمّا فما استقرّ في جوفه حتى صاح ولحقه ذرب عظيم ودخل واسط وهو لمآبه.
فسلّمه الخادم إلى محمّد بن عليّ البزوفري وجعله في داره وبادر الخادم بالانصراف، وقام حامد أكثر من مائة مجلس ولم يتغذّ إلّا بسويق السّلت.
وأراد البزوفري الاستظهار لنفسه فاستحضر القاضي والشهود بواسط وكتب كتابا يقول فيه:
« إنّ حامدا وصل إلى واسط وتسلّمه البزوفري وهو عليل من ذرب شديد لحقه في طريقه بين بغداد وواسط وإنّه إن تلف من ذلك الذرب فإنّما مات حتف أنفه، ولا صنع للبزوفرى في شيء من أمره. » ووجّه بالكتاب إلى حامد فأظهر له حامد الاستجابة إلى الإشهاد على نفسه بما فيه. فلمّا دخل إليه القاضي والشهود قال لهم:
« ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض عاهدني وحلف لي بأيمان البيعة والطلاق، على أنّى إن أقررت بجميع أموالى لم يسلّمنى إلى ابنه المحسّن وصانني عن كلّ مكروه وأطلقنى إلى منزلي وولّانى أجلّ الأعمال، فلمّا أقررت له بجميع ما ملكته سلّمنى إلى ابنه المحسّن فعذّبنى بأصناف العذاب وأخرجنى مع فلان الخادم واحتال عليّ وسقاني بيضا وطرح فيه سمّا فلحقني الذرب ولا صنع للبزوفرى في دمى في هذا الوقت، ولكنّه فعل وصنع. ثم أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها في المساور البزيون المخلقة فتباع المسورة بخمسة دراهم وفيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف دينار فيشتريها هو فاشهدوا على ما شرحته لكم. » وتبيّن البزوفري حينئذ أنّه أخطأ فيما فعله.
وكتب صاحب الخبر بواسط إلى ابن الفرات بجميع ما تكلّم به حامد.
وتوفّى حامد بن العبّاس ليلة الثالثة عشر من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
ما جرى في أمر علي بن عيسى وتسليمه إلى ابن الفرات

لمّا قبض المقتدر على عليّ بن عيسى وجعله في يد زيدان القهرمانة، راسله بأن يقرّ بأمواله. فكتب رقعة يقول فيها: إنّه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.
واتفق أن ورد الخبر بدخول أبي طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى إلى البصرة سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر في ألف وسبعمائة راجل، وأنّه وصل إليها بسلاليم نصبها بالليل على سورها وصعد إلى أعلى السور، ثم نزل إلى البلد وقتل البوّابين الذين على أبواب السور وفتح الأبواب وطرح بين كلّ مصراعين منها حصى ورملا كان معه على الجمال لئلا يمكن إغلاق الباب عليه، وأنّه لم يعرف سبك المفلحى والى البصرة إلّا في سحر يوم الاثنين ولم يعلم أنّه ابن أبي سعيد الجنّابى، وقدّر أنّهم أعراب. فركب مغترّا ولقيه وجرت بينهم حرب شديدة وقتل سبك ووضع أبو طاهر في أهل البصرة السيف وأحرق المربد وبعض المسجد الجامع ومسجد قبر طلحة ولم يعرض للقبر.
وهرب الناس إلى الكلّاء، فكانوا يحاربونهم عدّة أيّام ثم أخذهم السيف فطرحوا أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم. وأقام أبو طاهر بالبصرة سبعة عشر يوما ويحمل على جماله كلّ ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، ثم انصرف إلى بلده فأنفذ إلى ابن الفرات في الوقت الذي ورد فيه خبر القرمطي بنيّ بن نفيس وجعفرا الزّرنجى إلى البصرة وقلّد محمّد بن عبد الله الفارقي أعمال المعاون بالبصرة وخلع عليه وانحدر في الطيّارات والشذاءات. وورد الخبر بوصوله إليها بعد انصراف أبي طاهر الجنّابى عنها فأقام فيها الفارقي رجاله وانصرف بنيّ والزّرنجى.
وكان بنيّ بن نفيس أنفذ جماعة من القرامطة إلى بغداد ذكر أنّهم استأمنوا إليه وأنّهم زعموا أنّ عليّ بن عيسى كاتبهم بالمصير إلى البصرة وأنّه وجّه إليهم في عدّة أوقات بهدايا وسلاح فوافوا بغداد وأنهى ابن الفرات الحال في ذلك إلى المقتدر بالله.
ذكر مناظرة ابن الفرات علي بن عيسى

وعرض الكتاب بعينه عليه فأمره المقتدر بإخراج عليّ بن عيسى إليه ليناظره، والجمع بينه وبين القرامطة حتى يواجهوه بما قالوا فيه، ففعل ابن الفرات فاحتجّ عليّ بن عيسى بأن قال:
« إنّه من كان في مثل حالتي وتحت سخط السلطان كاشفه الناس بالكذب والباطل لا سيّما إذا كان الوزير منحرفا ومغتاظا. » ثم أخذ ابن الفرات يخاطبه في أمر الأعمال وكان فيما ناظره عليه أمر المادرائيين وقال:
« قد كان أخذ ابن بسطام خطوطهما في أيّام وزارتي الثانية صلحا عمّا وجب عليهما من خراج ضياعهما بمصر والشام وما أخذاه من المرافق بها مدّة تقلّدهما في أيّامك الأولى بألفي ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وأدّيا في أيّامى نحو خمسمائة ألف دينار فصرفت على ابن بسطام ساعة وليت الدواوين وقلّدت هذين العاملين المجاهرين باقتطاع مال السلطان وأنشأت إليهما كتابا عن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بإسقاط ذلك بأسره عنهما، ثم ادّعيت أنّ أمير المؤمنين أمر بذلك وقد أنهيت هذه الحال إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال:
« لم آمر بشيء من هذا ولا ظنّ أنّ أحدا يقدم عليه بمثلها. » فأجاب عليّ بن عيسى بأنّه كان في الوقت [ كاتبا ] لحامد بن العبّاس يخلفه على العمل، وكان أمير المؤمنين أمرنى بقبول قوله وأنّ حامدا ذكر أنّ أمير المؤمنين أمر بإسقاط هذا المال عن هذين العاملين ووقّع بذلك توقيعا فوقّعت تحت توقيع حامد بامتثال أمره كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمره به صاحبه.
فقال ابن الفرات:
« أنت كنت تعارض حامدا وتخاصمه أبدا في اليسير تخرجه عليه في عبرة ما كان ضمنه حتى جرى بينكما ما تحدّث به الناس. فكيف تركت أن تستأذن أمير المؤمنين في هذا المال العظيم الجسيم؟ » فقال عليّ بن عيسى:
« كنت في أوّل الأمر كاتبا لحامد مدّة سبعة أشهر، ثم بان لأمير المؤمنين ما أوجب أن يعتمد عليّ، وكان الذي جرى من أمر المادرائيين في صدر أيّام حامد. » فقال له ابن الفرات:
« فلمّا اعتمد عليك أمير المؤمنين ألّا صدقّته عن خطأ حامد في هذا الباب وتلافيته؟ » فقال: « أغضيت عن ذلك لأنّى كنت في ذي القعدة سنة ستّ أوصلت الحسين بن أحمد إلى حضرة أمير المؤمنين وأخذت خطّه في مجلسه بما عقدته عليه من ضمان أعمال الخراج والضياع لمصر والشام في كلّ سنة بعد النفقات الراتبة وإعطاء الجيش في تلك النواحي وهو ألف ألف دينار في كلّ سنة خالصة للحمل إلى بيت المال لا ينكسر منه درهم واحد وذلك بعد أن أخذت خطّه بجميع ما تصرّف فيه من عطاء الجيش والنفقات الراتبة في ناحية ناحية ووقفت عليه أيضا في كلّ سنة لما ينكسر ويتأخّر في هذه الأعمال مائة وثلاثين ألف دينار وخطّه بذلك في ديوان المغرب وهذا غاية ما قدرت عليه. » فقال ابن الفرات:
« أنت تعمل أعمال الديوان منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة ثم تولّيت الوزارة ودبّرت أمر المملكة مدّة طويلة هل رأيت من يدع مالا واجبا يؤدّى معجّلا ويأخذ عوضا منه مالا مؤجّلا يحال به على ضمان، وهبك أغضيت كما ذكرت ورأيت ذلك صوابا في التدبير، فهل استوفيت مال هذا الضمان من هذا الضامن في مدّة خمس سنين دبّرت فيها المملكة؟ » فأجاب عن ذلك بأنّه قد كان ورد من مال الضمان للسنة الأولى جملة.
ثم سار العلوي من إفريقية حتى تغلّب على أكثر النواحي بمصر فنفذ مونس المظفّر إلى مصر لمحاربته فانصرف أكثر المال إلى أعطيات الجند ونفقات العساكر وانكسر باقيه لأجل استخراج العلويّ ما استخرجه من أموال النواحي المجاورة لمصر.
« فقال ابن الفرات: