وتبع أبو طاهر رجال السلطان والقوافل حتى بلغ باب الكوفة فخرج قوّاد السلطان الذين ذكرناهم، فأوقع بهم وهزمهم وأسر جنّيّا الصفواني، وأقام أبو طاهر بظاهر الكوفة ستّة أيّام يدخل البلد بالنهار ويخرج بالليل فيبيت في معسكره ويحمل كلّ ما قدر على حمله. فكان في جملة ما حمل أربعة آلاف ثوب وشى وثلاثمائة راوية زيت. فلمّا حمل كلّ ما قدر عليه رحل إلى بلده.
ودخل جعفر بن ورقاء وجماعة المنهزمين إلى بغداد فتقدّم المقتدر بالله إلى مونس بالخروج إلى الكوفة لمحاربة القرمطي، واضطرب أهل بغداد اضطرابا شديدا وانتقل أكثر أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ودخل مونس الكوفة وقد رحل أبو طاهر الجنّابى عنها فاستخلف مونس بها ياقوتا وسار هو إلى واسط ولم يتمّ الحجّ لأحد.
ودخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

وفيها ورد الخبر بمسير عليّ بن عيسى إلى مكّة حاجّا في هذه السنة من مصر وورد سلامة حاجبة بغداد ومعه سفاتج بمائة ألف وسبعة وأربعين ألف دينار وبآثار واستدراكات أثرها. وكان الخصيبي قد أقرّ عليّ بن عيسى على ما كان إليه من الإشراف على مصر والشام.
وفيها فتح إبراهيم المسمعي ناحية القفص وأسر منهم خمسة آلاف إنسان وحملهم إلى فارس.
وفي هذه السنة كثرت الأرطاب ببغداد حتى عمل منها التمور وحملت إلى البصرة فنسبوا إلى البغي.
وفيها كتب ملك الروم إلى أهل الثغور يرسم لهم أداء الخراج إليه ويقول:
« إن فعلتم ذلك طائعين وإلّا قصدتكم فقد صحّ عندي ضعفكم. »
ودخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة

وفيها دخل الروم ملطية فأخرجوا وسبوا وأقاموا ستّة عشر يوما.
وفيها وصل ثمل إلى عمله من الثغور عند انصرافه من بغداد.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن محمّد الخاقاني وكان أطلق إلى منزله.
فلمّا ارتفعت الصرخة بوفاته كبست داره لطلب عبد الوهّاب ابنه فلم يوجد.
وفيها دخل أهل ملطية بغداد مستغيثين ممّا نزل بهم من الروم.
وفيها خرج أهل مكّة منها ونقلوا حرمهم وأموالهم لاتصال خبر القرمطي بهم وأنّه قريب منهم فتخوّفوا على أنفسهم وأموالهم منه.
وكتب الكلوذانى إلى الخصيبي بأنّ أبا طالب زيد بن عليّ النوبندجانى قد صار يجرى مجرى أصحاب الأطراف وأنّه قد تغلّب على ضياع السلطان وأنّه يلزمه ممّا استغلّه منها ثلاثة آلاف ألف درهم.
وعمل بذلك عملا أحال فيه على ما كان كتبه أبو القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام وقت تقلّده فارس. وكتب إلى الحسن بن إسماعيل وكان شخص ليقرّر خلافا كان بين المسمعي والكرخي بأن يصادره على مائة ألف دينار فاستدعى الحسن بن إسماعيل أبا طالب زيد بن عليّ وأخذ خطّه بمائة ألف دينار.
ذكر تدبير سيئ دبره الخصيبي أخرج به أكثر المماليك عن يده ولم يمكن تلافيه

دبّر الوزير أبو العبّاس الخصيبي أن يقلّد يوسف بن ديوداذ جميع نواحي المشرق ليسلّم أموالها إليه فيكون مع مال ضمانه أرمينية وأذربيجان مصروفة إلى قوّاده وجنده وغلمانه، وكاتبه في المصير إلى واسط لينفذه إلى هجر لمحاربة أبي طاهر الجنّابى وأشار بتكنيته وبأن يكون مونس المظفّر ببغداد ليقوى بمكانه أمر الخلافة وتعظم الهيبة في قلوب الأعداء.
فلمّا قرب ابن أبي الساج من واسط وكان فيها مونس المظفّر رحل مونس إلى بغداد ودخل ابن أبي الساج واسط وأنفذ قبل وصوله إليها أبا عليّ الحسن بن هارون كاتبه وكان يخدمه في خاصّ أمره على سبيل الخلافة لأبي عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى كاتبه واختصّ به وخفّ على قلبه، فصار إلى بغداد ليواقف الخصيبي على مال رجاله وأموال الأعمال التي كانت معقودة عليه والأموال التي جعل مالها مصروفا إلى رجاله زيادة على الأموال المتقدّم ذكرها، فإنّ الخصيبي جعل أموال الخراج والضياع بنواحي همذان وساونة ورونة وقمّ وماه البصرة وماه الكوفة والإيغارين وما سبذان ومهرجانقذق لابن أبي الساج لمائدته لمحاربة الجنّابى.
فأمضى المقتدر ذلك وتقدّم بتقليده أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بسائر كور الجبل وأنفذ إليه اللواء وكنّاه. فكان يوسف يتكنّى على جميع الناس إلّا على الوزير ومونس المظفّر.
والتمس الحسن بن هارون أن يجعل لابن أبي الساج مائدة مبلغها في الشهر خمسة ألف دينار وقال:
« ليس هو بدون أحمد بن صعلوك. » وكان قد جعلت له مائدة في أيّام وزارة حامد بن العبّاس مبلغها ثلاثة آلاف دينار في الشهر وجعل له عشرة آلاف دينار في كلّ شهرين من شهور المماليك لأرزاق غلمان لا يحضرون. وسام الكتاب الحسن بن هارون أن يشرط على نفسه أن ينفذ السلطان منفقا ينفق أموال تلك النواحي في رجالة غلمانه، فاستجاب إلى جميع ما طالبوه به وأعطى خطّه إلّا أمر المنفق فانّه زعم أنّ صاحبه لا يصوّر نفسه عند أصحاب الأطراف بصورة من لم يوثق به على مال رجاله.
ولمّا عقد لابن أبي الساج على الجبل وندب لمحاربة القرمطي عقد لصاحب خراسان على الريّ فصار إلى الريّ وأنفذ إليه من يخاطبه على المال الذي ووقف على حمله من الريّ. وصار ابن أبي الساج إلى الريّ وحمل إليه المقتدر خلعا سلطانيّة وسيفا ومنطقة ذهب وخيلا بمراكب ذهب وفضّة وطيبا وسلاحا.
ذكر الخبر عن القبض على الخصيبي وتقليد علي بن عيسى الوزارة

أضاق أبو العبّاس إضاقة شديدة واضطرب أمره وأشار مونس بعليّ بن عيسى فأنفذ ضحوة نهار يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة إلى الخصيبي حتى قبض عليه وعلى ابنه وكتّابه وحملوا إلى دار السلطان وحبسوا عند زيدان القهرمانة. وفرّق بين الخصيبي وبين ابنه وحمل باقى المعتقلين إلى دار الوزارة بالمخرّم فاعتقلوا فيها، وأنفذ نازوك وقت قبضه على الخصيبي حتى حفظت داره القديمة من النهب.
واستدعى المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى وأوصله إلى حضرته وعرّفه أنّه قد قلّد أبا الحسن عليّ بن عيسى الوزارة وأنّه قد استخلفه له ويقدم إليه بالنيابة عنه واستحضر سلامة الطولونى وتقدّم إليه بالنفوذ في البرّيّة إلى دمشق واستحضار عليّ بن عيسى منها.
وانصرف أبو القاسم الكلوذانى من دار السلطان في الطيّار الذي قبض على الخصيبي إلى دار الوزارة بالمخرّم ونظر في الأعمال وكتب إلى العمّال في النواحي وإلى جميع الأمراء وأصحاب البرد والخبر والقضاة بما قلّد عليّ بن عيسى من الوزارة واستخلاف أمير المؤمنين إيّاه وأمر ونهى وصرف وولّى.
وظهر في ذلك اليوم أبو عليّ ابن مقلة وأبو الفتح الفضل بن جعفر ابن حنزابة وصارا إلى الكلوذانى وسلّما عليه.
ذكر خلافة أبي القاسم الكلوذانى لعلي بن عيسى وتمشيته للأمور

قد كان جمع الخصيبي عنده جميع رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمّال بما ضمنوا من المال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب، وكان عنده خطّ كاتب المسمعي عن مال فارس بما يعجّله عن الزيادة في ضمانه وهو ألف ألف درهم وخطّ سليمان بن الحسن بما استدركه على ابن عبد الوهّاب وهو أربعمائة ألف دينار وكسر، وما ضمن حمله عن أعمال الشام وهو خمسمائة ألف دينار، وخطوط ضمناء واسط والبصرة وطريق خراسان والنهروانات ونهر بوق والذئب الأسفل وجازر والمدينة والعتيقة وغيرهم. فحفظ جميع ذلك الكلوذانى إلى أن قدم عليّ بن عيسى فسلّمه إليه.
وأدّى نصير بن عليّ إليه مائتي ألف درهم وأحمد بن إسحاق بن زريق عشرة آلاف دينار وورد بعد أسبوع من صرف الخصيبي فيج بكتب سليمان بن الحسن وفي درجها سفاتج بثمانين ألف دينار. وورد ما كان حمله عليّ بن عيسى على الظهر من مال مصر ووصل من جهة البرجمالى من قمّ عشرة آلاف دينار ووردت من جهة أبي عليّ ابن رستم من مال الضمان سفاتج بأربعمائة ألف درهم فكان ذلك سبب تمشيته الأمور.
واتفق الكلوذانى في سائر المرتزقة وفي الفرسان قبل العيد ولم يزل أبو القاسم الكلوذانى يدبّر الأمور وقد تمكّنت الهيبة لعليّ بن عيسى في الصدور فاستعان بذلك على أمره.
وسار عليّ بن عيسى من دمشق إلى جسر منبج، ثم انحدر في الفرات إلى بغداد وشخص الناس في استقباله سنة خمس عشرة، فمنهم من أبعد إلى الرقّة.
ودخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

ذكر ما دبره علي بن عيسى في وزارته هذه وما جرى في أيامه

وصل عليّ بن عيسى إلى بغداد وبدأ بدار المقتدر ووصل إلى حضرته بعد عشاء الآخرة ومعه مونس. فخاطبه أجمل خطاب وانصرف إلى منزله ووجّه المقتدر إليه في ليلته بكسوة فاخرة وفرش ومال يقال إنّه بقيمة عشرين ألف دينار، وخلع عليه من الغد، وسار معه مونس المظفّر إلى أن بلغ داره وحلف عليه عليّ بن عيسى فنزل في داره، وسار بين يديه هارون ابن غريب وشفيع ومفلح ونسيم وياقوت ونازوك وجميع القوّاد حتى وصل إلى داره بباب البستان.
وكان قد ضرّب عليّ بن عيسى على هشام فتأخّر عنه واستوحش فكاتبه وونّسه حتى حضر مجلسه ثم قال له:
« ما مذهبي أن أذكر إساءة لأحد من الناس ولما خلّصنى الله من صنعاء وعدت إلى مكّة عاهدت الله على ترك الإساءة إلى أحد ممّن سعى عليّ في ولايتي ونكبتى ووكلت جميعهم إلى الله ولك خدمة متقدّمة توجب لك حقّا وعليك أضعافه فإن كنت لا ترعى ذلك فلن أدع رعايته. » وقلّد عليّ بن عيسى الكلوذانى ديوان السواد وقال له:
« هذا أجلّ الدواوين ومتى تشاغلت بخلافتى اختلّ وليس يقوم به أحد كقيامك. » ثم نظّم الأعمال وقلّد العمّال ورتّب الدواوين واعتمد على إبراهيم بن أيّوب في إثبات أمر المال بحضرته وفي موافقه صاحب بيت المال على ما يطلقه وينفقه في كلّ يوم ومطالبته بالرّوزنامجات في كلّ أسبوع ليتعجّل معرفة ما حلّ وما قبض وما بقي. وكان الرسم إذا عملت الختمة لم يرفع إلى الديوان للشهر الأوّل إلّا في النصف من الثاني.
وقلّد أبا الفتح الفضل بن جعفر بن حنزابة ديوان المشرق، وأبا بكر محمّد بن جني ديوان المغرب، وأبا عليّ ابن مقلة ديوان الضياع الخاصة والمستحدثة، وأبا محمّد الحسين بن أحمد المادرائى ديوان الضياع الفراتيّة، وأبا محمّد بن روح ديوان زمام الخراج والضياع العامّة بالسواد والأهواز وفارس وكرمان وما يجرى فيه.
وقلّد أبا القاسم ابن النّفاط ديوان زمام النفقات والخزائن. وأبا جعفر القمّى ديوان الدار، وأبا أحمد عبد الوهّاب بن الحسن ديوان البرّ وديوان الصدقات، وأبا الفتح محمّد بن أحمد قلنسوة ديوان زمام الجيش، ومحمّد بن عيسى ديوان الحرم، وأبا يوسف ديوان الفصّ والخاتم.
وقلّد أيضا كفاة العمّال واقتصر في أرزاقهم على عشرة أشهر في كلّ سنة وبأصحاب البرد والمنفقين على ثمانية أشهر في كلّ سنة. وحطّ من مال الرجّالة برسم النوبة ومن مال الفرسان وجميع أرزاق من كان يرتزق بهذين الرسمين من الكتّاب والتجار ومن لا يحمل السلاح. وحطّ أولاد المرتزقة الذين في المهود وحطّ من مال الخدم والحشم وجميع أرزاق الجلساء والندماء والمغنّين والتجّار وأصحاب الشفاعات، وحطّ أرزاق غلمان وأسباب أصحاب الدواوين. ولازم النظر بنفسه في العمل ليلا ونهارا والجلوس لأصحاب الدواوين في الليل وكان يسهر أكثر الليل حتى استقامت الأمور وتوازن الدخل والخرج.
وكان إلى أبي عبد الله البريدي في الوقت الضياع الخاصّة ضمانا واقطاع الوزراء. وكان أبو يوسف البريدي يتولّى لعليّ بن عيسى الخراج برامهرمز سهلها وجبلها.
شرح ما جرى بين الوزير أبي الحسن علي بن عيسى وبين أبي العباس أحمد بن عبيد الله من المناظرة

تقدّم المقتدر إلى أبي الحسن عليّ بن عيسى بمناظرة أبي العبّاس الخصيبي. فأخرج إليه وناظره في دار السلطان بحضرة الأستاذين والقوّاد والقضاة مناظرة جميلة وسأله عن مبلغ ما أنفق بالحضرة من بيت المال فلم يحفظه، وسأله عمّا صحّ له من مال المصادرين وعن رقاعهم بالمصادرات وعن كفالات من كفل منهم وعن ضمانات ما ضمنه عنهم.
فقال:
« أمّا المصادرات فقد صحّ لي منها في مدّة أربعة عشر شهرا تولّيت فيها الوزارة نحو ألف ألف دينار. » فقال له:
« كم منها من جهة الخاقاني فإنّ أمير المؤمنين عرّفنى أنّك ضمنتهم بخمسمائة ألف دينار. » فقال: « دفع عنه مونس المظفّر. » فردّت الجماعة قوله وقالوا له:
« قد سلّم إليك حتى شنّع عليك بأنّك سممته ثم أطلقته. » ثم قال له عليّ بن عيسى: