فوجّه بجماعة من الديلم وأخلاط من الجند إلى شيراز للمقام بها وضبطها فبادر إليهم العامّة بشيراز مع جماعة من الرجّالة السودان ومماليك للتنّاء.
وكان الديلم قد تفرقوا في الأسواق فقتلوا منهم نحو سبعين رجلا. فبلغ عليّ بن بويه ذلك ووجّه بأخيه أبي الحسين أحمد وكان إذ ذاك تسع عشرة سنة وهو أمرد وهو حينئذ صحيح اليدين وأنفذ معه ثمانين رجلا من الديلم فقتل من السودان نحو ألف رجل ونادى في البلد ألّا يقيم فيه أحد من أصحاب ياقوت ولا من الجند وأنّ من وجد بعد النداء فقد أباح دمه وماله.
فلم يبق في البلد أحد منهم.
اتفاقات عجيبة مساعدة لعلي بن بويه بعد دخوله شيراز وانفتاح وجوه الذخائر والودائع له

ودخل عليّ بن بويه شيراز واتفقت له بها ضروب من الاتفاقات عجيبة كانت سببا لثبات ملكه. فمنها أنّ أصحابه اجتمعوا وطالبوه بالمال ونظر فإذا القدر الذي معه لا يرضيهم وأشرف أمره على الانحلال فاشتغل قلبه واغتمّ غمّا شديدا فبينا هو مفكّر قد استلقى على ظهره في مجلس ياقوت من داره وقد خلا فيه للفكرة والتدبير، إذ رأى حيّة قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه وخاف أن تسقط عليه وهو نائم فدعا بالفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم وإخراج تلك الحيّة ففعلوا. ولمّا صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضى إلى غرفة بين سقفين، فعرّفوه ذلك، فأمرهم بفتحها ففتحت ووجد فيها عدّة صناديق من المال والصياغات خمسمائة ألف. فاستوى جالسا وحمل إلى بين يديه ذلك المال فسرّ به وأنفقه في رجاله وثبت أمره بعد أن أشفى على الانحلال.
وحكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي أنّ عليّ بن بويه أراد قطع ثياب وسأل عن خيّاط حاذق فوصف له خيّاط لياقوت فأمر بإحضاره وكان أطروشا ووقع له أنّه قد سعى به إليه في وديعة كانت لياقوت وأنّه طلبه بهذا السبب. فلمّا خاطبه حلف أنّه ليس عنده إلّا اثنا عشر صندوقا لا يدرى ما فيها. فعجب عليّ بن بويه من جوابه ووجّه معه بمن حملها. فوجد فيها أمرا عظيما من المال والثياب.
والذي كان يكتب لعليّ بن بويه في ذلك الوقت رجل نصراني من أهل الريّ يعرف بأبي سعد إسرائيل بن موسى ثم قتله بعد مدّة بسبب سنفرد له خبرا، واستكتب مكانه أبا العبّاس أحمد بن محمّد القمّى المعروف بالحنّاط.
وسفر الأمير أبو الحسن عليّ بن بويه بعد تمكّنه من البلد في أن يقاطع السلطان عنه ويتقلّده من قبل الراضي، فأجيب إلى ذلك وقنع منه بما بذل وهو في كلّ سنة بعد جميع المؤن والنفقات الراتبة والحادثة ثمانية آلاف ألف درهم خالصة للحمل.
وكتب إلى الوزير أبي عليّ ابن مقلة يحلف له بأغلظ الأيمان على موالاة الوزير أبي عليّ ابن مقلة وابنه الحسين ومعاضدتهما وما يقال في هذا المعنى وأكّده. فأنفذ إليه الوزير أبو عليّ بالخلع واللواء في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ورسم للرسول وهو أبو عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي الكاتب ألّا يسلّم اللواء والخلع إلّا بعد أن يتسلّم المال ووقف عليه. فلمّا قرب المالكي من البلد تلقّاه عليّ بن بويه على بعد وسار معه إلى ظاهر شيراز وطالبه بأن يسلّم إليه اللواء والخلع فعرّفه ما رسم له وأنّه لا يمكنه من ذلك إلّا بعد تسلّم المال الذي ووقف عليه فخاشنه عليّ بن بويه وأرهبه حتى سلّم إليه الخلع ولبسها ودخل بها إلى شيراز وبين يديه اللواء.
وأقام المالكي مدّة يطالب بالمال فلم يدفع إليه شيئا بتّة وحصل على المواعيد والمطل والتوقّف ثم اعتلّ المالكي ومات بشيراز وحمل تابوته إلى بغداد في سنة ثلاث وعشرين.
وانفتح لعليّ بن بويه وجوه الذخائر والودائع ووزير [ ه ] أبو سعد النصراني فضمن له بقايا مال السنة أبو الفضل العبّاس بن فسانجس وابن مرداس وأبو طالب زيد بن عليّ وغيرهم من وجوه البلد بأربعة آلاف ألف درهم، واستخرجت له الذخائر وانفتحت له كنوز وودائع عمرو بن الليث ويعقوب بن الليث وياقوت وابنه وعليّ بن خلف ورجال السلطان وكثرت أموال عليّ بن بويه وعمرت خزائنه واستأمن إليه رجال ما كان بن كاكى من كرمان وكثر جمعه واستفحل أمره وانتهى خبره إلى مرداويج فقامت قيامته ووافى إصبهان وبها وشمكير أخوه لأنّه لمّا خلع القاهر من الخلافة وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها وبقيت سبعة عشر يوما خالية أعاد مرداويج أخاه إليها. فلمّا استقرّ بها وورد مرداويج لتدبير عليّ بن بويه عند استعصائه عليه ردّ أخاه وشمكير إلى الريّ لخلافته عليها.
وأنفذ شيرج بن ليلى اسفهسلّاره مع حاجبه الشابشتى ومعهما ألفان وأربعمائة رجل من الجيل والديلم ووجوه القوّاد مثل بكران وإسماعيل الجبلي إلى الأهواز، وكان غرضه أن يملكها فيأخذ الطريق على عليّ بن بويه ويحجز بينه وبين السلطان حتى إذا قصده بعد ملكه الأهواز لم يكن له منفذ إلّا إلى تخوم كرمان والتيز ومكران وأرض خراسان.
ولمّا نزلت عساكر الجيل ايذج خاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين عليّ بن بويه، فوافى الأهواز ومعه ابنه وقلّده السلطان أعمال الحرب والمعاون بها وارتسم أبو عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بكتابة ياقوت مضافة إلى ما إليه من أعمال الخراج والضياع بالأهواز وصار أخوه أبو الحسين يخلف أخاه وياقوتا بالحضرة. وحصل رجال مرداويج برامهرمز في غرّة شوّال من سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وصلّوا العيد بها وخطبوا لمرداويج وساروا إلى الأهواز فعسكر ياقوت بقنطرة أربق وقطعها والماء الذي تحت هذه القنطرة حاد الجرية فأقام رجال مرداويج بإزاء ياقوت أربعين يوما لا يمكنهم العبور إليه وسار ياقوت إلى بغداد على طريق دور الراسبي وسار عليّ بن خلف بن طناب في البحر من ساحل مهروبان إلى البصرة. ورحل جيش مرداويج عن قنطرة أربق وضمن لهم طائفة من العيّارين أن يعبروا بهم نحو المسرقان بعسكر مكرم حتى يصير الطريق بينهم وبين الأهواز جددا فعدلوا إليها.
واجتمع البريدي وياقوت فتشاوروا وقرّر الرأي على إنفاذ مونس غلام ياقوت في أربعة آلاف رجل إلى عسكر مكرم لدفعهم عن عبور المسرقان وكانا حسبا أنّ القوم بعد منازلة أربعين يوما قد ضجروا وانصرفوا وأنّهم لا يلبثون بعسكر مكرم إلّا يومين أو ثلاثة فلمّا حصلوا بها عملوا أطوافا من خشب وشاشا من قصب وعبر منهم خمسون رجلا عليها فانهزم مونس لوجهه وعاد إلى مولاه فأخبره الخبر. وكان قد ورد إليه مدد من بغداد وخيل عظيمة فرحل لوقته من قنطرة أربق بعد اجتماع الجيل إليه بيومين وصاروا بأجمعهم إلى قرية الريح وهم بالحقيقة قد حصلوا من أمرهم على الريح. وصار ياقوت ومن تبعه وهم عدّة وافرة كثيرة إلى باذاورد ومنها إلى واسط فأفرج له محمّد بن رائق عن غربيها فنزله بعسكره وعرف عليّ بن بويه حصول عسكر مرداويج بالأهواز وشرح ما جرى وتملّق لكاتب مرداويج واستصلحه وأقام الخطبة وواقفه على مال وأنفذ إليه رهينة فسكن مرداويج وقلّد عليّ بن بويه أرجان بعد انصراف ياقوت وعليّ بن خلف عنها إبراهيم بن كاسك.
واستقرّت كتابة ياقوت لأبي عبد الله البريدي فورد الخبر وهو بالبصرة في بستان المؤمّا يريد المسير في طيّاره إلى واسط بقتل مرداويج في الحمّام بإصبهان فأنفذ للوقت أبا عبد الله بن جني الجرجرائي إلى الأهواز بخلافته عليها وقال له:
« اقصد ظاهر البلد بل أقم على فرسخ منه فإذا صحّ عندك خروج الجيل والديلم فادخله واثبت عند دخولك الفرسان والرجّالة فإني أنفذ من واسط أبا الفتح ابن أبي طاهر وأبا أحمد السجستاني في ألف رجل لضبط البلد وكور الأهواز. » ثم وافى أبو عليّ غلام جوذاب كاتب البريدي في طريق الماء وترتب ابن أبي طاهر بالأهواز وأبو أحمد السجستاني بعسكر مكرم. ووافى إبراهيم بن كاسك من أرجان إلى رامهرمز طمعا في الأهواز لما خلت فكاتبه عليّ بن بويه بالتوقف وألّا يبرحها حتى يمدّه بالجيش فمن قبل ورود الجيش عليه من فارس ما وافى ياقوت إلى عسكر مكرم على طريق السوس فلمّا بلغ إبراهيم بن كاسك خبره رحل من رامهرمز إلى أرجان.
وكانت مع ياقوت قطعة من الديلم والأتراك والخراسانيّة فظنّ أنّهم يثبتون وأنّه مستظهر بهم ووافاه أبو عبد الله البريدي والتقيا بعسكر مكرم وأنفق فيه وفي رجاله ثلاثمائة ألف دينار على يد ابن بلوى وابن سريج المنفقين وسيّرهم إلى أرجان ووافاه عليّ بن بويه وحاربه بها فانهزم ياقوت هزيمة ثانية لم يفلح بعدها ولا شدّ منها حزاما ولم ينفعه عدد العجم والديلم ولا عجب من أمر الله وتبعه عليّ بن بويه إلى رامهرمز وخيف على الأهواز منه فراسله أبو عبد الله البريدي في الصلح فاستجاب له وكاتب الوزير أبا عليّ ابن مقلة فيما قرره من الصلح فعرضه على الراضي بالله فأمضاه فانصرف عليّ بن بويه إلى شيراز وعقدت فارس على عليّ بن بويه بما ذكرناه ونفذ إليه أبو عيسى المالكي باللواء والعهد وكان من أمره ما قدّمت ذكره.
وقتل أبو الحسن عليّ بن بويه أبا سعد إسرائيل كاتبه
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ أبا سعد كان مكينا عند عليّ بن بويه يتبرّك به ويكرّمه جدا وكان يقود الجيش وله غلمان أتراك ولبس القباء والسيف والمنطقة وكان قد حارب في وقت ياقوتا فهزمه. فكان أبو العبّاس الحنّاط القمّى يضرّب عليه دائما ويجتهد في إفساد رأى صاحبه فيه فلا يقبل منه وينهاه عن ذكره فلا ينتهى إلى أن قال يوما وقد أكثر عليه في الإغراء به:
« يا هذا إنّ هذا الرجل صحبني وحالي صغيرة وقد بلغت ما ترى ولست أدرى هل ما وصلت إليه بدولته أم بدولتى وليس إلى تغيير أمره طريق فإيّاك أن تعاودني فيه. » فما أغنى ذلك منه ولا انتهى عن الوقيعة فيه وثلبه.
وكان بين أبي سعد هذا وبين حاجب لعليّ بن بويه يقال له: خطلخ - وإليه مع الحجبة رئاسة الجيش - عداوة فاتفق أن دعى أبو سعد دعوة عظيمة دعا فيها عليّ بن بويه والقوّاد وأنفق فيها في الخلع والحملان ما له قدر كثير ودعا خطلخ فلم يستجب إلى المصير إليه واجتهد به فلم يكن فيه حيلة وأصبح أبو سعد من غد يوم الدعوة فأقام على أمره ودعا من يأنس به وانتبه خطلخ من نومه وهو مغتاظ يزعم أنّه لا بدّ له من أن يركب إلى أبي سعد فيقتله لأنّه رأى في نومه أبا سعيد يريد قتله فاجتهد به خواصّه في أن يؤخّر ذلك فامتنع وحمل في خفّه دشنيا وركب وقيل لأبي سعد أنّ خطلخ قد ركب على أن يجيئه فأنكر ذلك لأنّه كان دعاه فامتنع فلم يعرف لمجيئه إليه بغير استدعاء وجها، فاستعدّ ليستظهر وقال لغلمانه:
« تأهّبوا بالطبرزينات وكونوا مستترين في المجالس حوله فإن أنكر من خطلخ أمرا صاح بهم فخرجوا ووضعوا عليه. » وحضر خطلخ فتلقّاه أبو سعد وجاء حتى جلس وأخذ يتجنّى ويعربد إلى أن ضرب يده إلى خفّه وأخرج الدشنى فصاح أبو سعد بالغلمان فخرجوا بالدبابيس والطبرزينات ووضعوا على خطلخ ووقع في رأسه دبّوس فدوّخه وسقط وقدّر أنّه مات وحمل إلى منزله فعاش يومين ومات.
فبادر أبو العبّاس الحنّاط إلى الأمير في الوقت فوجده نائما فقال للغلمان:
« أنبهوه ».
فلم يجسروا، فصاح وجلب إلى أن أنبهه ودخل إليه وقال له:
« إنّ أبا سعد قتل حاجبك خطلخ. » فلم يصدّقه وانتهره فقال:
« وجّه وانظر. » فورد عليه الخبر بصدقه فاستعظم ذلك ووجم ساعة ودخل أبو سعد فلم يظهر له أنّه أنكر شيئا ولا أنّه استوحش وسأله عن السبب فيما فعله فعرّفه الصورة واستشهد من حضر فاستصوب ما فعله. وخاف أبو سعد ووجد أبو العبّاس الحنّاط فرصته وأقبل يقول:
« هو ذا يأخذ البيعة على القوّاد وهو خارج عليك لا محالة. » فوجّه الأمير إلى أبي سعد فأنسه غاية التأنيس وحلف له أيمانا مؤكّدة على ثقته به وأنّه لا يلحقه سوء من جهته. واتّفق أن أخرج أبو سعد صناديقه من البيوت إلى صحن داره ليسترها استظهارا وخلا بموسى فياذه يشاوره فمضى الحنّاط إلى الأمير عليّ بن بويه فقال له:
« قد استحلف أبو سعيد قوّادك وآخر من استحلفه موسى فياذه وها هو قد أخرج صناديقه وهو خارج الساعة. » فوجّه بالأمير بمن عرف خبره فرأى الرسول الصناديق وموسى فياذه خارجا من عنده فعاد إليه بالخبر فلم يشكّ الأمير حينئذ في صحّة قول الحنّاط فقبض عليه وعلى جميع ماله من سائر الأصناف واعتقله. وكان في الاعتقال إلى أن ورد بعض قوّاد الأتراك من بعض أعمال فارس فواطأه الحنّاط على الدخول مع أصحابه وهم خمسون رجلا مخرّقي الثياب مسودّي الوجوه يضجّون بما جرى على خطلخ من أبي سعد ويتهددون إن لم يقتل أبو سعد. ففعل القائد ذلك ودخل والأمير على شرب فأمر بقتل أبي سعد ثم وقعت الندامة عند الصحو وبعد فوت الأمر واستكتب الأمير بعده أبا العبّاس الحنّاط وبقي معه إلى أن مات الأمير عليّ بن بويه.
عود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام

ونعود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام. لمّا حصل محمّد بن ياقوت بالحضرة وحصلت له الحجبة ورئاسة الجيش أدخل يده في تدبير أعمال الخراج والضياع ونظر فيما ينظر فيه الوزراء وطالب أصحاب الدواوين بحضور مجلسه وألّا يقبلوا توقيعا بولاية ولا صرف ولا غير ذلك من سائر الأحوال إلّا بعد أن يوقّع فيه بخطّه. وتجلّد أبو عليّ واحتمل ذلك وألزم نفسه المصير إليه فإذا صار إليه دفعتين صار هو إليه دفعة واحدة فكان أبو على كالمتعطّل لا يعمل شيئا ملازما لمنزله ويجيئه أبو إسحاق القراريطي كاتب محمّد ابن ياقوت فيطالعه بما يجرى وما يعمل.
وفي هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال.
ذكر السبب في قتله

كان سبب ذلك أنّه لمّا بلغ هارون بن غريب تقليد الراضي بالخلافة وكان مقيما بالدينور - وهي قصبة أعمال ماه الكوفة - وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبما سبذان ومهرجانقذق وحلوان وتدبّر أعمال الخراج والضياع بها - وهي النواحي التي كانت بقيت في يد السلطان من نواحي المشرق بعد الذي غلب عليه مرداويج - رأى أنّه أحقّ بالدولة من كلّ أحد. فكاتب جميع القوّاد بالحضرة وأنّه إن صار إلى الحضرة وتقلّد رئاسة الجيش وتدبير الأمور أطلق لهم أرزاقهم على التمام ولم يؤخّر عنهم شيئا منها. وسار إلى بغداد حتى وافى خانقين فغلظ ذلك على الوزير أبي عليّ ابن مقلة وعلى محمّد ابن ياقوت وعلى الحجريّة والساجيّة والمونسيّة وخاطبوا بأجمعهم فقال الراضي:
« أنا كاره له، فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك. » فلمّا كان يوم السبت لسبع خلون من جمادى الآخرة استحضر أبو بكر ابن ياقوت أبا جعفر بن شيرزاد وأوصله إلى الراضي بالله حتى حمّله رسالة إلى هارون بن غريب بأن يرجع إلى الدينور وكتب معه كتابا فنفذ من وقته ووجد هارون قد صار إلى جسر النهروان وأدّى الرسالة وأوصل الكتاب فأجاب هارون بأنّه قد انضمّ إليه من الرجال من لا يكفيهم مال عمله. وعاد أبو جعفر بالجواب وأدّاه إلى الراضي بالله بحضرة الوزير أبي عليّ والحاجب أبي بكر محمّد بن ياقوت، فبذلوا له أن يقلّدوه أعمال طريق خراسان كلّها ويكون مالها مصروفا إليه زائدا على ما يأخذه. وقال الراضي بالله:
« سبيله أن يقتصر على بعض من معه من الرجال. » فنفذ أبو جعفر ومعه أبو إسحاق القراريطي بهذا الجواب. فلمّا أدّيا إليه الرسالة امتنع وقال:
« إنّ الرجال لا يقنعون بهذه الزيادة. » ثم قال:
« ومن جعل ابن ياقوت أحقّ بالحجبة والرئاسة مني؟ الناس يعلمون أنّه كان في آخر أيّام المقتدر يجلس بين يديّ ويمتثل أمري. ومن جعله أخصّ بالخليفة مني؟ وأنا نسيب أمير المؤمنين وقريبه وابن ياقوت ابن غلام من غلمانه. » فقال القراريطي:
« لو كنت تراعى ما بينك وبينه من القرابة لما عصيته » فقال: « لو لا أنّك رسول لأوقعت بك. قم فانصرف. » ووضع هارون يده في الاستخراج، فاستخرج أموال طريق خراسان وقبض على عمّال السلطان وجبى المال بعسف وخبط وظلم وتهوّر وكان الوقت قريبا من الافتتاح. فلمّا اشتدّت شوكته شخص محمّد بن ياقوت من بغداد في سائر الجيوش بالحضرة ونزل في المضارب بنهربين بإنفاذ أبي جعفر محمّد بن شيرزاد دفعة ثانية برسالة جميلة ووعده أن يواقفه على عدّة الرجال الذين يتقرر الأمر معه على كونهم في جملته وينظر في جرائدهم وأرزاقهم لسنة خراجيّة. فإن وفي مال أعماله بماله ومالهم رجع إلى الدينور وإلّا سبّب له بالباقي على أعمال طساسيج النهروانات ونفذ إليه بهذه الرسالة يوم الاثنين.
وقد وقعت طلائع عسكر هارون على طلائع عسكر محمّد بن ياقوت وأصحاب هارون هم المستظهرون وكثر مضيّ الجند من عسكر محمّد ابن ياقوت إلى هارون بن غريب مستأمنة إليه فتبيّن أبو جعفر من هارون أنّه اتّهمه بالميل إلى محمّد بن ياقوت وابن مقلة. فلمّا رأى منه ذلك استأذنه في الانصراف بالجواب فقال:
« إني أخاف عليك منه أن يعتقلك وإنّما بيننا وبين الوقعة وانكشاف الأمر بيننا ليلة واحدة. »
تزاحف العسكرين

فلمّا كان في يوم الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران وكان المبدأ من أصحاب هارون واشتدّ القتال واستظهر أصحاب هارون لأنّ عددهم أضعاف عدد ابن ياقوت وانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت وقطعة من الغلمان الحجريّة ونهب أصحاب هارون أكثر سواد ابن ياقوت ونكّسوهم عن دوابّهم وأثخنوا فيهم الجراحات وقتلوا منهم عدّة. فركب حينئذ محمّد بن ياقوت وسار حتى عبر قنطرة نهربين ولم تزل الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار وركب هارون بن غريب مبادرا وسار منفردا عن أصحابه على شاطئ نهربين يريد قنطرته لمّا بلغه أنّ ابن ياقوت قد عبر القنطرة وقدّر أنّه يقتله أو يأسره فتقطّر به فرسه فسقط منه في ساقيه فلحقه يمن غلامه فضربه حتى أثخنه بالطبرزينات ثم سلّ سيفه ليذبحه فقال له هارون:
« يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك قتلى أيّ شيء أذنبت به إليك؟ » فقال له:
« نعم أنا أفعل بك هذا. » وحزّ رأسه ورفعه وكبّر، فتبدّد رجال هارون ودخل بعضهم من طرق آخر إلى بغداد ونهب سواد هارون وأصحابه وأسر قوم. وسار محمّد بن ياقوت إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه وأنفذ بمن يحفظ دار هارون من النهب ودخل بغداد وبين يديه رأس هارون وعدّة من قوّاده. فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامّة وخلع على ابن ياقوت وطوّق وسوّر.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

تقليد الراضي ابنيه المشرق والمغرب

وفيها قلّد الراضي ابنيه الأمير أبا جعفر وأبا الفضل المشرق والمغرب واستكتب لهما أبا الحسين عليّ بن أبي عليّ ابن مقلة وخلع على أبي الحسين لذلك يوم الاثنين لخمس خلون من .