









فدخل بغداد يوم الخميس لثمان خلون من رجب وشهر هؤلاء الأسارى على الجمال بالبرانس الطوال والثياب الملونة لأربع عشرة ليلة خلت منه وأودعوا الحبوس والمطابق وتفرق أولئك الذين نجوا منهم في الأطراف البعيدة وطفئت جمرتهم وزالت عن أعمال بغداد والسواد مضرّتهم.
القبض على نقيب الطالبيين
وفيها قبض على أبي أحمد الموسوي نقيب الطالبيين وعلى أخيه أبي عبد الله وعلى قاضى القضاة أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، وأنفدوا إلى فارس وقلّد قضاء القضاة أبو سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير مقيم بفارس واستخلف له ببغداد أربع خلفاء على أرباع بغداد وهم: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن صبر وكان خليفته على الجانب الشرقي من حد المخرّم وإلى الطرف الأعلى منه، وأبو الحسين عبد العزيز بن أحمد الخرزي وصيّر خليفته على ما بقي من الجانب الشرقي من حدّ المخرّم وإلى الطرف الأسفل، وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الأكفانى خليفته على مدينة أبي جعفر المنصور وما يتصل بها من الجانب الغربي إلى طرفه الأعلى، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد العماني خليفته على المدينة التي تعرف بالشرقية وهي على غربي دجلة الى طرفه الأسفل، وقسمت نواحي السواد على هذه الحصص بينهم.
وفي هذه السنة ورد الخبر بقتل أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بالرملة
ذكر شرح الحال في قتله وحرقه
كنا قد ذكرنا خبره في توجهه من الرحبة إلى دمشق وكان بلغه أنّ عضد الدولة كاتب سعد الدولة بن سيف الدولة وجميع البوادي هناك من بنى كلاب وغيرهم بمعارضته في مسيره وأخذه وحمله إلى حضرته، فاستوحش وعدل عن نهج الطريق وأوغل في البرية فنالته مشقة عظيمة ووصل إلى دمشق من ورائها فوجد فيها من أهلها رجلا يقال له: قسّام، قد تحصن بها وغلب عليها وخالف صاحب المغرب فلم يتمكن من دخولها فنزل في ظاهرها وأنفذ كاتبه عليّ بن عمرو الى مصر يستدعى من صاحب المغرب النجدة.
ووقعت بين أصحابه وبين أصحاب قسام هذا ثورة، فرحل إلى موضع يقال له نوى وفارقه من ههنا ابن عمه أبو الغطريف مستأمنا إلى عضد الدولة وعيّد عيد الفطر بنوى.
وورد عليه كتاب من كاتبه من مصر بأنّ صاحب المغرب تقبله ووعده بكل ما أحبّه وأنّه التمس منه أن يسير إليه زائرا. فامتنع أبو تغلب من ذلك وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما. فرحل عن نوى إلى منزل يقال له:
كفر عاقب على بحيرة طبرية وفارقه من هناك أخوه أبو طاهر ابن ناصر الدولة على اتفاق واستئذان مستأمنا إلى عضد الدولة.
وكان صاحب المغرب أنفذ وجها من وجوه غلمانه يقال له: الفضل، إلى دمشق ليحتال على قسام ويفتتح البلاد. فصار الى طبرية وقرب من أبي تغلب وتراسلا في الاجتماع فسار الفضل إليه وتلقّاه أبو تغلب وتفاوضا في الموكب ووعده عن صاحب المغرب بكلّ ما أحبّ وبذل له أبو تغلب المسير معه إلى دمشق لفتحها.
فكره ذلك للنفرة التي كانت جرت بينه وبين قسام لئلا يوحشه وكان يسلك في أمره اللطف والحيلة لا طريق الخوف والمقارعة فافترقا وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
ثم رحل الفضل الى دمشق فلم يتمّ له ما قدّره فيها.
وكان بالرملة دغفل بن المفرّج بن الجرّاح الطائي وهو رجل بدوي استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة صاحب المغرب من غير أن يتصرف على أحكامها واستفحل أمره وكثرت البوادي معه، فسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليواقعها ويخرجها عن تلك البلاد، فلجأت إلى أبي تغلب وسألته نصرتها ومتّت إليه بالرحم النزارية وكتب ابن الجراح إليه يسأله ألّا يفعل ذلك ومتّ إليه بالحلف الذي وقع قديما في الجاهلية بين ربيعة واليمن، فتوسط بين الجهتين على التكافّ إلى أن يرجع الى صاحب المغرب ويمتثل ما يرد منه في الأمر الذي شجر بينهما.
ورحل فنزل في جوار عقيل على أنّه مانع لها المسير والإبتداء بالشرّ فأوحش ذلك ابن الجرّاح والفضل صاحب صاحب المغرب وخافاه وظنا أنّ اجتماعه مع بنى عقيل لتدبير على أعمالهم، فسار الفضل عن باب دمشق على طريق الساحل إلى الرملة.
وضجر أبو تغلب من طول مقامه، واتصل كتب كاتبه إليه بالتسويف والتعليل فسار الى الرملة مع احياء عقيل وذلك في المحرم سنة 369 فهرب ابن الجراح والفضل من بين يديه حتى بعد، وكتب الفضل يستنجد ويجمع الى نفسه جيوش السواحل وولاته.
وجمع أيضا ابن الجراح الرجال واحتشد فتوافت إليهما طوائف كثيرة واستأمن الى أبي تغلب ممن كان معهما اسختكين التركي المغربي وغيره من الأتراك وقطعة من الرجال الاخشيدية والمغاربة وعطف إليه الفضل وابن الجراح فيمن جمعا فوقعت الوقعة على باب الرملة يوم الاثنين لليلة خلت من صفر سنة تسع وستّين وثلاثمائة.
فلما عاينت عقيل كثرة الناس انهزمت، فضعف أمر أبي تغلب وفارقه اسختكين المغربي طالبا العراق ومستأمنا الى عضد الدولة، وعاد باقى المستأمنة من المضريّين الى الفضل والى ابن الجرّاح ولم يبق مع أبي تغلب إلّا نحو سبعمائة رجل وهم غلمانه الحمدانية فانهزم وانهزموا ولحقهم الطلب فثنوا وجوههم يحامون عن نفوسهم بالمكافحة والمجالدة. فضرب بعض الصعاليك أبا تغلب على رأسه، وعرقب آخر، فرسه، فسقط إلى الأرض وبادر إليه ابن عم لابن الجراح يقال له: مشيّع الطائي، وقتل بعض غلمانه وأسر أكثر أصحابه وحصل أبو تغلب في عشيّته تلك في يد ابن الجراح فبكّر مرتحلا بأحيائه وعسكره وسيّره بين يديه على ناقة وقد شدّ رجليه بسلسلة إلى بطنها واعتقد أن يأتى عليه ولا يبقى.
فبلغ ذلك الفضل فبكر ليأخذه من يد أبي الجراح فألفاه قد سار فاتبعه.
فلمّا قرب خلف ابن الجراح أن يتسلمه منه ويصير به الى مصر فيجري معه مجرى ألفتكين في اصطناع صاحب المغرب له واستصحابه إياه وقد وتره بالحرب والأسر وأناخ الناقة وضربه بيده ضربتين بالسيف فسقط قتيلا وأخذ رأسه وقطع بعض الشيوخ من العرب يديه ورجليه، لأنّه كان ضرب يد ابن له عند ممانعته عن نفسه فأطنّها. ولحق الفضل وقد قضى الأمر فأخذ رأسه وأنفذه إلى مصر ثم صلب جثته ثم أحرقت.
وقد كان خلّف أخته جميلة وزوجته وهي بنت سيف الدولة في أحياء بنى عقيل. فلما قتل حملوهما مع سائر عياله الى حلب فأخذ سعد الدولة أخته اليه وأنفذ جميلة الى الرقة وحدرها منها الى عانة وعدل بها من عانة الى الموصل وسلّمت الى أبي الوفاء فكانت في يده الى أن انحدر الى بغداد فحدرها معه وحصلت معتقلة في الدار في بعض حجرها مع جواري عضد الدولة ونسائه.
ذكر تلافي بغداد بالعمارة بعد الخراب بأمر عضد الدولة
وفي هذه السنة أمر عضد الدولة بعمارة منازل بغداد وأسواقها وكانت مختلّة قد أحرق بعضها وخرب البعض فهي تلّ.
المساجد الجامعة
وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت أيضا في نهاية الخراب فأنفق عليها مالا عظيما وهدم ما كان مستهدما من بنيانها وأعادها على إحكام وشيّدها وأعلاها وفرشها وكساها وتقدم بإدرار أرزاق قوّامها ومؤذنيها والائمة والقرّاء فيها وإقامة الجرايات لمن يأوى إليها من الغرباء والضعفاء، وكان ذلك كله مهملا لا يفكّر فيه.
مساجد الأرباض والعقارات
ثم أمر بعمارة ما خرب من مساجد الارباض المختلفة وأعاد وقوفها وعوّل في هذه المصالح على عمّال ثقات أشرف عليها نقيب العلويّين.
ثم الزم أرباب العقارات التي احترقت ودثّرت في أيام الفتنة أن يعيدوها إلى أفضل أحوالها في العمارة وفي الحسن والزينة، فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت ماله ليرتجع منه عند الميسرة ومن لم يوثق منه بذلك أو كان غائبا أقيم عنه وكيل وأطلق له ما يحتاج إليه فعمرت بغداد وعادت كأحسن ما كانت.
الدور والقصور
ثم وقع التتبع على الدور والمساكن التي على جانبي دجلة فبنيت مسنّياتها وجددت رواشنها بعد أن كان الخراب شاملا لها وتقدم إلى من سمّيت له دار على الشط من كبار الأولياء والحاشية أن يجتهد في عمارتها وتحسينها.
سبب خراب الدور والقصور وكان السبب في خراب هذه الدور والقصور على الشطّ أنّ بختيار كان نقض دار أبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي التي كانت على الصراة ودجلة حين قبضها عنه ولم يكن لها نظير ببغداد في الاتساع والحسن، وكان اتخذ فيها بستانا نحو سبعة أجربة مملوأ بالنخل والأشجار والرياحين والأنوار وطرائف الغروس الغريبة وأنشأ فيها المجالس البهيّة والمساكن الفسيحة، فارتفع له من أثمان النقض جملة استكثرها واستطاب بعد ذلك بيع الأنقاض فهدم المنازل الجليلة التي لا يمكن أو يصعب إعادتها.
رفع سنة الإخراب وبيع الأنقاض
فأمر عضد الدولة برفع سنّة الإخراب وبيع الأنقاض وإعادة عمارة بستان عرصة دار العباس بن الحسين وكذلك عمارة البستان بالزاهر المتوسط الشرقي من بغداد. ففعل ذلك فامتلأت هذه الخرابات بالزهر والخضرة والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
الأنهار والقناطر
وكان ببغداد أنهار كثيرة مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزّازين ونهر الزجاج ونهر القلايين ونهر طابق وميزابها الى دجلة والصراة ونهر عيسى ونهر بناحية الحربية يأخذ من الدجيل وكان منها مرافق للناس لسقى البساتين ولشرب الشفة في الأطراف البعيدة من دجلة. فاندفنت مجاريها وعفت رسومها ونشأ قرن بعد قرن من الناس لا يعرفونها واضطرّ الضعفاء الى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة أو يتكلفوا حمل الماء من دجلة في المسافة الطويلة، فأمر بحفر عمدانها ورواضعها وقد كانت على عمدانها الكبار المعروفة بنهر عيسى والصراة والخندق قناطر قد تهدمت وأهمل أمرها وقلّ الفكر فيها، فربما انقطعت بها السبل أصلا وربما عمرتها الرعية عمارة ضعيفة على حسب أحوالهم وعلى حسب الاقتصاد والتزجية فلم تكن تخلو من أن تجتاز عليها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فيسقطون فبنيت كلها جديدة وثيقة وعملت عملا محكما.
جسر بغداد
وكذلك جرى أمر الجسر ببغداد فإنّه كان لا يجتاز عليه إلّا المخاطر بنفسه لا سيّما الراكب، لشدة ضيقه وضعفه وتزاحم الناس عليه. فاختيرت له السفن الكبار المتقنة وعرّض حتى صار كالشوارع الفسيحة وحصّن بالدرابزينات ووكّل به الحفظة والحرّاس.
مصالح السواد
فأمّا مصالح السواد فإنّها قلّدت الأمناء ووقع الإبتداء بذلك في السنة المتقدمة لهذه التي نحن في ذكرها، فغلبت الزيادات وجمعت العدد من القصب والتراب وأصناف الآلات وأعيد كثير من قناطر أفواه الأنهار والمغايض والآجرّ والنورة والجصّ وطولب الرعية بالعمارة مطالبة رفيقة واحتيط عليهم بالتتبع والإشراف وبلغ في الحماية إلى أقصى حد ونهاية.
تأخير الخراج إلى النيروز
وأخّر افتتاح الخراج الى النيروز المعتضدي وكان يؤخذ سلفا قبل إدراك الغلّات، وأمضيت للرعية الرسوم الصحيحة وحذفت عنها الزيادات والتأويلات، ووقف على مظالم المتظلمين وحملوا على التعديل ورفعت الجباية عن قوافل الحجيج، وزال ما كان يجرى عليهم من القبائح وضروب العسف وأقيمت لهم السواني في مناهل الطريق وأحفرت الآبار واستفيضت الينابع.
حمل الكسوة إلى الكعبة
وحملت إلى الكعبة الكسوة المستعملة الكثيرة وأطلقت الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالمدينة وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرّت لهم الأقوات من البرّ والبحر وكذلك فعل بالمشهدين بالغري والحائر - على ساكنيهما السلام - وبمقابر قريش فاشترك الناس في الزيارات والمصليات بعد عداوات كانت تنشأ بينهم الى أن يتلاعنوا وتواثقوا وخرست الألسن التي كانت تجرّ الجرائر وتشبّ النوائر بما أظلها من السلطان القامع والتدبير الجامع.
رسوم للفقراء وأصناف العلماء وإفراد حجرة في داره لمفاوضات الحكماء آمنين من السفهاء
وبسطت رسوم للفقراء والفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين والنسابين والشعراء والنحويين والعروضيين والأطباء والمنجمين والحسّاب والمهندسين. وأفرد في دار عضد الدولة لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه وهو الحجرة التي يختص بها الحجّاب، فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم وكرامات تتصل بهم.
فعاشت هذه العلوم وكانت مواتا وتراجع أهلها وكانوا أشتاتا ورغب الأحداث في التأدب والشيوخ في التأديب، وانبعثت القرائح ونفقت أسواق الفضل وكانت كاسدة، وأخرج من بيت المال أموال عظيمة صرفت في هذه الأبواب وفي غيرها من الصدقات على ذوي الحاجات من أهل الملّة، وتجاوزهم الى أهل الذمّة. وأذن للوزير نصر بن هارون في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم.
الغرض من شرح هذه البركات
وكنّا بعرض الزيادة من هذه البركات إلى أن أتى أمر الله الذي لا يدفع.
وإنّما شرحناها لينظر فيها من يأتى بعدنا ويقرأها الملوك أو تقرأ بين أيديهم فيعملون بمثل ذلك ويسيرون بها لينتشر ذكرهم بالجميل ويطلع الله عز وجل على نيّاتهم فيمكّن لهم ويحسن معونتهم.
فلو لا خلال كانت في عضد الدولة يسيرة لا أستحسن ذكرها مع كثرة فضائله، لبلغ من الدنيا مناه، ورجوت له من الآخرة رضاه، والله ينفعه بما قدّمه من العمل الصالح ويغفر له ما وراء ذلك.
شخوص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام
وفي هذه السنة شخص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام الى أسافل واسط لطلب الحسن بن عمران فأقام على منازلته والتاث عليه أمره فقتل نفسه.
ذكر شرح الحال في قتل المطهر نفسه
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)