









قال أبو رية (ص33): (كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثًا إلا بشهادة غيره على أنه سمعه من رسول الله).
أقول: هذه دعوى لا تقبل إلا بدليل كأن يكون أبو بكر صرح بذلك، أو تكرر منه رد خبر الآحاد الذين لم يكن مع كل منهم آخر، وليس بيد أبي رية شيء من هذا، إنما ذكر الواقعة الآتية وسيأتي النظر فيها.
قال: (روى ابن شهاب عن قبيصة «أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئًا ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: كان رسول اللهيعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد.؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر».
أقول: هذه واقعة حال واحدة ليس فيها ما يدل على أنه لو لم يكن مع المغيرة غيره لم يقبله أبو بكر. والعالم يحب تظاهر الحجج كما بينه الشافعي في الرسالة (ص432). ومما حسن ذلك هنا أن قول المغيرة: «كان رسول الله ص يعطيها السدس» [9] يعني [10] أن ذلك تكرر من قضاء النبي ص. وقد يستبعد أبو بكر تكرر ذلك ولم يعلمه هو مع أنه كان ألزم للنبيمن المغيرة وأيضًا الدعوى قائمة، وخبر المغيرة يشبه الشهادة للمدعية ومع ذلك فهذا خبر تفرد به الزهري عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن قبيصة، واحد عن واحد عن واحد. فلو كان في القصة ما يدل على أن الواحد لا يكفى لعاد ذلك بالنقض على الخبر نفسه. فكيف وهو منقطع؟ لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر، وعثمان بن إسحاق وإن وثق لا يعرف في الرواية إلا برواية الزهري وحده عنه هذا الخبر وحده.
قال أبو رية: (وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية، وهو شرط الإسناد الصحيح).
45أقول: تلك أمانيهم، وقد بين الكتاب والسنة وجوب أن يقبل خبر العدل، وقرن الله تعالى تصديقه بالإيمان به سبحانه، قال تعالى في ذكر المنافقين: { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } كلما أخبره أحد من الصحابة عنا بشر صدقه، قال تعالى: { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }، أي: يصدقهم. وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا }. فبين سبحانه أن خبر الفاسق مناف لخبر العدل، فمن حق خبر العدل أن يصدق كما صرحت به الآية الأولى، ومن حق خبر الفاسق أن يبحث عنه حتى يتبين أمره. وأما السنة فبيانها لوجوب أن يقبل خبر الواحد العدل أوضح، وقد أطال أهل العلم في ذلك وألفوا فيه، وانظر رسالة الشافعي (ص401-458) وأحكام ابن حزم (1: 108)، ومن أبين ما احتجوا به ما تواتر من بعث النبيآحاد الناس إلى القبائل والأقطار يبلغ كل واحد منهم من أرسل إليه ويعلمهم ويقيم لهم دينهم. قال ابن حزم: (بعث رسول الله
معاذ إلى الجند وجهات من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى... وأبا عبيدة إلى نجران، وعليًا قاضيًا إلى اليمن، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلمًا لهم شرائع الإسلام. وكذلك بعث أميرًا إلى كل جهة أسلمت… معلمًا لهم دينهم ومعلمًا لهم القرآن ومفتيًا لهم في أحكام دينهم وقاضيًا فيما وقع بينهم، وناقلًا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم
. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد… ولا في أن بعثتهم إنما كانت لما ذكرنا. [و] من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليه رسول الله
من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في الشريعة… إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولًا، ولكان عليه السلام قائلًا للمسلمين: بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني، ومن حكمكم أن لا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني… ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام).
والحجج في هذا الباب كثيرة، وإجماع السلف على ذلك محقق.
قال أبو رية (ص34): (أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطًا وتثبيتًا… روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي، فرجعت قال عمر: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقال رسول الله ص:46«إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»، فقال: والله لتقيمين عليه بينة. زاد مسلم: وإلا أوجعتك وفي رواية ثالثة: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا أمنكم أحد سمعه من النبي ص؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبيقال ذلك».
قال أبو رية: (فانظر كيف تشدد عمر في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وتدبر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه. وقد استند إلى هذه القصة من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد. واستدل به من قال إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره…).
أقول: قد ثبت عن عمر الأخذ بخبر الواحد في أمور عديدة، من ذلك أنه كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن النبي ص كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع إليه عمر. وعمل بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن دخول بلد فيها الطاعون وعمل بخبره وحده في أخذ الجزية من المجوس. وهذا كله ثابت، راجع رسالة الشافعي (426). وفي صحيح البخاري وغيره عن عمر أنه قال لابنه عبد الله: «إذا حدثك سعد عن رسول الله ص بشيء فلا تسأل عنه غيره» وكان سعد حدث عبد الله حديثًا في مسح الخفين. فأما قصة أبي موسى فإنما شدد عمر لأن الاستئذان مما يكثر وقوعه، وعمر أطول صحبة للنبي ص وأكثر ملازمة وأشد اختصاصًا، ولم يحفظ هو ذاك الحكم فاستغربه، ولهذا لما أخبره أبو سعيد عاد عمر باللائمة على نفسه فقال: «خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله ص، ألهاني عنه الصفق بالأسواق» وهذا ثابت في الصحيحين، وأنكر أبي بن كعب على عمر تشديده على أبي موسى وقال: «فلا تكن يا ابن الخطاب عذابًا على أصحاب رسول الله ص، فقال عمر: إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت» وهذا في صحيح مسلم. وقد كان عمر يسمي أبيًا سيدَ المسلمين. وفي الموطأ أن عمر قال لأبي موسى: «أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله ص». قال ابن عبد البر: (يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله ص عن الرغبة والرهبة طالبًا للمخرج مما يدخل فيه) فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج. وقد نقل أبو رية شيئًا من فتح الباري وترك ما يتصل به من الجواب الواضح عنه، فإن شئت فراجعه.
47وقال أبو رية (ص8): (وكان علي يستحلف الصحابي على ما يرويه له).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)