ومن قابل هذه الحكاية بالروايات الصحيحة وجد مخالفة: منها عدد الطعنات، اتفقت الروايات الصحيحة على أنها ثلاث فقط، ووقع في هذه الحكاية أنها ست.
فأنت ترى أن النظر في متن هذه الحكاية يبين أنها مدخولة لا يمكن الاعتماد عليها في شيء، ويؤكد ذلك سقوط سندها، فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة، وأبوه ساقط الحديث كما بينه جمع من الأئمة، وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبو جعفر بن المسور فلا يعرف برواية أصلًا، ولا يدرى أدرك أباه أم لا؟
78
وقال (ص 117): (ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: «ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا، وإنك تقول: من أين؟ وإني في جزيرة العرب».
أقول: هي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون وأبو إسحاق مشهور بالتدليس ولم يذكر سماعا وروى غيره القصة عن عمرو بن ميمون كما في صحيح البخاري وغيره بدون هذه الزيادة. ومع هذا فأي شيء فيها؟ أما الشهادة فقد كان عمر مبشرًا بها يقينًا، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس: «أن النبي صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» وصح معناه من حديث عثمان وبريدة وأبي هريرة وسهل بن سعد. راجع فتح الباري (7: 32).
وفي الصحيحين وغيرهما سؤال عمر لحذيفة عن الفتنة، وقول حذيفة: «لا بأس عليك يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها بابا مغلقًا قال عمر: يفتح الباب أو يكسر؟ قال حذيفة: لا. بل يكسر. قيل لحذيفة: علم عمر بالباب؟ قال: نعم. كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط» ثم بين حذيفة أن الباب هو عمر نفسه. فالمراد بقوله: «يفتح أو يكسر»: يموت أو يقتل.
وثم أخبار أخرى كرؤيا عوف بن مالك في عهد أبي بكر، وفيها في ذكر عمر (شهيد مستشهد). وفي صحيح البخاري أن عمر قال: «اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتًا في بلد رسولك» وراجع فتح الباري (4: 86) و (6: 44)، ولا ريب أن كعبًا كان عارفًا بصحف أهل الكتاب وأن فيها أخبارًا عن المستقبل، وأنه كان يوجد في صحفهم في صدر الإسلام ما لا يوجد عندهم الآن. راجع ما تقدم (ص72). وشأن عمر من أعظم الشئون في العالم وأحقها أن يبشر به الأنبياء السابقون عند تبشيرهم بالنبي ، ومع هذا فليس في رواية أبي إسحاق ذكر التوراة، فقد يكون استند إلى تلك الأخبار الصحيحة عن النبي .
قال أبو رية: (وإليك خبرًا عجيبًا من أخبار ذلك الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك «أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي -أي كعب الأحبار - يقول إنك من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله ثم خرج فأرسل إلى كعب، فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبوب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت اقتحموا وقد صدقت يمينه... فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة (23)هـ».
79
أقول: ذكر ابن حجر في فتح الباري هذه الحكاية في شرح حديث حذيفة الذي فيه وصف عمر بأنه باب مغلق دون الفتنة، وقد تقدم قريبًا. وفي الفتح أيضًا (2: 446) حديث فيه أن النبي أشار إلى عمر وقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش، وأن أبا ذر قال لعمر: «يا غلق الفتنة» فغير منكر أن يكون في صحف أهل الكتاب إشارة إلى هذا المعنى بنحو ما في الحكاية -إن صحت- وإنما الذي يستنكر أن يكون فيها بيان وقت موت عمر على التحديد. وقد كان عمر في شهر ذي الحجة سنة (23) حاجًا واتفق هناك علامات تؤذن بقرب موته، منها أن رجلًا ناداه يا خليفة! فقال آخر من حزاة العرب: إنا لله، ناداه باسم ميت. ثم لما كان يرمي الجمرات أصابت حصاة جبهة عمر فأدمته، فقال ذاك الحازي: إنا لله، أشعر أمير المؤمنين. والإشعار تدمية البعير الذي يهدى لينحر. وجاء عن عائشة أنها سمعت عقب ذاك الحج منشدًا ينشد:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ** له الأرض تهتز العضاة بأسوق
عليك سلام من إمام وباركت ** يد الله في ذاك الأديم الممزق
.. الأبيات
ولما انصرف عمر من الحج دعا الله تعالى فقال: «اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط» فلما قدم المدينة خطب الناس وقال في خطبته: «رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي». فمن الجائز إن صحت تلك الحكاية أن يكون كعب استند إلى بعض هذه العلامات أو شبهها، وقد يكون مع ذلك وجد في صحفه إشارة فهم منها بطريق الرمز -مع النظر إلى القرائن والعلامات السابقة- أن عمر لا يعيش في تلك السنة.
وبعد، فسند الحكاية غير صحيح، تفرد بها عن مالك رجل يقال له: عبد الوهاب بن موسى لا يكاد يعرف وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذكر في تاريخ البخاري ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبي في الميزان: (لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب) وفي مقدمة صحيح مسلم: (الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شار ك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه قبل منه…) وهذا الرجل لم يمعن في المشاركة فضلًا عن أن يكون ذلك على
80
الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيد به بعض المتأخرين كابن حبان والدارقطني، ومن ثم -والله أعلم- وثق الدارقطني عبد الوهاب هذا وزعم أن الخبر صحيح عن مالك. أما بقية سنده عن مالك فهو عن عبد الله بن دينار عن سعد الجاري، وسعد الجاري غير مشهور ولا موثق، ولا يدرى أدركه عبد الله بن دينار أم لا؟
ومقطع الحق أن ليس بيد من يتهم كعبًا بالمؤامرة غير كلمات يروى أن كعبًا قالها لعمر. وقد كان عمر والصحابة أعلم بالله ورسوله وكتبه منا، وأعلم بعد أن طعن عمر بالمؤامرة وقد انكشفت وهو حي، وأعلم بحال كعب؛ لأنه صحبهم وجالسهم. والمعقول أنه لو كان في ما خطب به عمر ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضي اتهامه.
قال أبو رية (ص118) (حديث الاستسقاء…).