









وذكر أبو رية (ص330) كلمات لبعض المحدثين في ذم أهل الحديث يعنون طلابه، التقطها من كتاب العلم لابن عبد البر، وقد قال ابن عبد البر هناك (2: 125): (وهذا كلام خرج على ضجر، وفيه لأهل العلم نظر). وإيضاح ذلك أن الرغبة في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخ ثقة مُعمَّر مكثر من الحديث قصده الطلاب من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شبان، ومنهم من لا سعة له من المال إنما يستطيع أن يكون معه من النفقة قدر محدود يتقوت منه حتى يرجع أو يلقى تاجرًا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم من كل نفقته جراب يحمله فيه خبز جاف يتقوت كل يوم منه كسرة يبلها بالماء ويجتزئ بها، ولهم في ذلك قصص عجيبة فكان يجتمع لدى الشيخ جماعة من هؤلاء كلهم حريص على السماع منه وعلى الاستكثار ما أمكنه في أقل وقت، إذ لا يمكنه إطالة البقاء هناك لقلة ما يبده من النفقة، ولأنه يخاف أن يموت الشيخ قبل أن يستكثر من السماع منه، ولأنه قد يكون شيوخ آخرون في بلدان أخرى، يريد أن يدركهم ويأخذ عنهم، فكان هؤلاء الشباب يتكاثرون على الشيخ ويلحون عليه ويبرمونه، فيتعب ويضيق بهم ذراعًا، وهو إنسان له حاجات وأوقات يجب أن يسترح فيها وهم لا يدعونه، ومع ذلك فكثير منهم لا يرضون أن يأخذوا من الشيخ سلامًا بسلام بل يريدون اختباره ليتبين له أضابط هو أم لا. فيوردون عليه بعض الأسئلة التي هي مظنة الغلط ويناقشونه في210بعض الأحاديث ويطالبونه بأن يبرز أصل سماعه، وإذا عثروا للشيخ على خطأ أو سقط أو استنكروا شيئًا من حاله خرجوا يتناقلون ذلك بقصد النصيحة، فكان بعض أولئك الشيوخ إذا ألح عليه الطلبة وضاف بهم ذرعًا أطلق تلك الكلمات (أنتم سخنة عين، ولو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا، ما رأيت علمًا أشرف ولا أهلًا أسخف من أهل الحديث. صرت اليوم ليس شيء أبغض إلي من أن أرى واحدًا منهم. إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ لأنا أشد خوفًا منهم من الفساق) لأنهم يبحثون عن خطئه وزلله ويشيعون ذلك.
والغريب أن أولئك الطلاب لم يكونوا يدعون هذه الكلمات تذهب، بل يكتبونها ويروونها فيما يروون، فيذكر من يريد عتاب الطلاب وتأديبهم كابن عبد البر، ويهتبلها أبو رية ليعيب بها الحديث وأهله جملة.
فأما قول الثوري: «أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة، وودت أني خرجت منه كفافًا لا علي ولا لي». فهذا كلام المؤمن الشديد الخشية تتضاءل عنده حسناته الكثيرة العظيمة ويتعاظم في نظره ما يخشى أن يكون عرض له من تقصير أو خالطه من عجب، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو هذا فيما كان له بعد رسول اللهمن عمل، وإنما كان عمله ذلك جهادًا في سبيل الله وإعلاء دينه وتمكين قواعده وإقامة العدل التام، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة، وقد كان فيها كلها أبعد الناس عن حظ النفس، بل كان يبلغ في هضم نفسه وأهل بيته، وكل عارف بالإيمان وشأنه يعرف لكلمة عمر حقها، ولكن الرافضة عكسوا الوضع، وقفاهم أبو رية في كلمة الثوري وما يشبهها!
وعلق أبو رية على كلمة (لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب… إلخ) ما تقدم تفنيده في مواضع.
خاتمة أبي رية
قال (ص331): (خاتمة…).
ذكر عبارات لابن خلدون تتلخص في أمور: الأول ذكر من الدواعي إلى الكذب التشيع للمذاهب والتزلف إلى ذوي المراتب. فأقول قد عرف المحدثون هذا وعدة أسباب أخرى أشاروا إليها في البواعث على الوضع، وإنما الفرق بينهم وبين بعض من يتعاطى النقد في عصرنا أن المحدثين علموا أن هذين الداعيين -مثلًا- لا يدعوان إلى الكذب؛ لأنه كذب، وإنما يدعو الأول إلى ما ذكر ما يؤيد المذهب، والثاني إلى ذكر ما يرضي ذا المرتبة،211وإن كلًا من التأييد والإرضاء ليس وقفًا على الكذب، بل يمكن أن يقع بما هو صدق، إذن فالمخبر بما يؤيد مذهبه أو يرضي رئيسه يجوز مع صرف النظر عن الأمور الأخرى أن يكون صادقًا وأن يكون كاذبًا، فالحكم بأحدهما لوجود الداعي غير سائغ، بل يجب النظر في الأمور الأخرى ومنها الموانع، فإذا وجد داع ومانع وانحصر النظر فيهما تعين الأخذ بالأقوى، وكل من الدواعي والموانع تتفاوت قوته في الأفراد تفاوتًا عظيمًا، فلابد من مراعاة ذلك ومن تدبر هذا علم أنه الحق لا ريب فيه وأنه يرى شواهده في نفسه وفي من حواليه، وعلم أن ما يسلكه بعض متعاطي النقد من أهل العصر في اتهام بعض أفاضل المتقدمين بالكذب لوجود بعض الدواعي عندهم في الجملة تهور مؤسف أما أئمة الحديث فقد عرفوا الرواة وخبروهم وعرفوا أحوالهم وأخبارهم واعتبروا مروياتهم كما تقدم في مواضع منها (ص55، 62) فمن وثقه المتثبتون منهم فمحاولة بعض العصريين اتهامه لأنه كان -مثلًا- يتشيع أو يخالط بني أمية أو نحو ذلك لغو لا يرتضيه العارف البتة، هذا حكم يقبله علماء السنة لهم وعليهم، ألا ترى أن مسلمًا صحح حديث أبي معاوية عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر قال: (قال علي: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأميإلي أن يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلامنافق») ولا أعلم أحدًا طعن فيه، مع أن عدي بن ثابت معروف بالتشيع بل وصفه بعضهم بالغلو فيه، وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم، والبخاري إن لم يخرج هذا الحديث فقد احتج بعدي بن ثابت في عدة أحاديث، ولو كان يتهمه بكذب ما في الرواية لما احتج به البتة.
الأمر الثاني: ذكر من أسباب الكذب خطأ أن يخطئ المخبر في معرفة حقيقة ما عاين أو سمع، وينقل الخبر بحسب ما اعتقد، أقول: قد عرف المحدثون هذا، ولذلك شرطوا في الراوي أن يكون ضابطًا متثبتًا عارفًا بمعاني الكلام إذا روى بالمعنى، ويختبرون حاله في ذلك باعتبار حديثه كما تقدم (ص55، 62) وغيرهما.
الأمر الثالث: ذكر من أسباب تلقي الراوي الصدوق خبر الكاذب ونقله له، حسن الظن بالمخبر، وموافقة الخبر لرغبة الراوي وضعف تمحيصه. أقول: وهذا قد عرفه أئمة الحديث، ولذلك لم يعدوا رواية الثقة لخبر عن رجل تصحيحًا ولا توثيقًا.
212الأمر الرابع: ذكر أن الحكم بصحة الخبر لا ينبغي أن يكتفي فيه بثقة الراوي، بل ينبغي أن يتقدم ذلك النظر في طبيعة الخبر وعرضه على أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ويقاس الغائب على الشاهد، فإذا عرف أنه ممكن نظر في حال الرواة، قال: (أما إذا كان مستحيلًا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح).
أقول: وهذا قد عرفه الأئمة، وقدروا كل شيء من هذا قدره. راجع (ص191).
وقال (ص334) عن ابن خلدون: (فأبو حنيفة رضي الله عنه يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثًا).
أقول: هذه مجازفة قبيحة وتفريط شائن، أفما كان ابن خلدون يجد عالمًا يسأله؟ الأحاديث المروية عن أبي حنيفة تعد بالمئات، ومع ذلك لم يرو عنه إلا بعض ما عنده؛ لأنه لم يتصدَّ لإسماع الحديث. راجع (ص34)
قال: (ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ).
أقول: وهذه مجازفة أخرى، لم يقصد مالك أن يجمع حديثه كله ولا الصحيح منه في الموطأ، إنما ذكر في الموطأ ما رأى حاجة جمهور الناس داعية إليه.
قال: (وغايتها ثلثمائة حديث أو نحوها).
أقول: وهذه مجازفة ثالثة، انظر كتاب أبي رية (ص271) حيث ذكر عن الأبهري أنها ستمائة، فأما ما ذكره هناك أن الموطأ كان عشرة آلاف حديث فلم يزل مالك ينقص منه، فقد فنده ابن حزم في إحكامه (2/137).
وقال أيضًا (إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الذين يؤخذ عن جميعهم). [64]
أقول: قال الإمام الشافعي: «أصحاب النبيكلهم ممن له أن يقول في العلم» راجع ما تقدم (ص42).
ثم قال أبو رية (ص334-338): (أعظم ما رزئ به الإسلام. قال الأستاذ الإمام محمد عبده…) فذكر أمورًا قد تقدم النظر فيها، وذكر (ص336) قول يحيى القطان: (ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث) ففسر الصالحين بالمرائين، والمعروف عند أهل الحديث أنهم أناس استغرقوا في العبادة والتقشف وغفلوا عن ضبط الحديث، فصاروا يحدثون على التوهم، كأبان بن أبي عياش ويزيد بن أبان الرقاشي وصالح المري وغيرهم.
وفي آخر (ص337): (أما الأخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدق بصحة روايتها).
أقول: ومن لم يصدق فمدار الحكم فيه على المانع له من التصديق، فمن الموانع ما لا يمنع إلا الزائغ، وراجع (ص56).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)