بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت ...

إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل

نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :

" أمي ... لم كانت رغد تبكي ؟؟ "

أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !


قالت أمي :


" لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم ... ! "


صمت برهة ثم قلت :

" و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم "

ابتسمت والدتي و قالت :

" إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! "

أوه هكذا ؟ جيد ... !
لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي ... أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد ...؟؟


قلت بتردد :

" هل ... هل ... تحسنون معاملتها ؟؟ "

رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب ... ثم قالت :

" طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا ... ندللها كثيرا ! "

تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :

" إذن ... لماذا كانت تبكي ؟؟ "

أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

" قلت لك ... بسبب الفستان ! "

قلت :

" لا أمي ... أعني قبل ذلك "

" قبل ذلك ؟؟ "

" عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي ... "





في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار ...

الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل ...

فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟

لم أتحمل رؤيتها تبكي ...

عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان ...
ترى ... هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي ... و الأحلام الوهمية ... و الذكريات المهجورة ؟؟


حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك ...

تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة ...


قلت :


" و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! "

قال أبي :

" لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! "

لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي ...

بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا ... و أطال عناقي الأخوي ...

أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا ... و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها ...

شيء رفع من معنوياتي المتدهورة

لكن ...

سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة ...

لو كنت بركانا ... أو قنبلة ... أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار

لكنني كنت وليد

أو بالأصح ...

شبح وليد ...

ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف ...

لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا ...

لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض ...



ليت أمي لم تلدك يا سامر

ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية ...


" أين العروس ؟؟ "

سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد ...


" في غرفتها ! تتزين ! "

قالت رغد ، فقال :

" سأذهب لرؤيتها "

و شد رغد يحثها على السير معه ... و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري ...

ليتني لم أعد

أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر

هل يحس أحد بي ؟؟

سمعت أمي تقول :

" ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ "

متعب ؟؟

فقط متعب ؟؟

ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا !

رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي

مرت لحظة صامته إلا عن تيار الهواء المتلاعب في صدري

أمي و أبي لا يزالان واقفين كما هما ... و أنا أشعر بحر شديد و أكاد أختنق ....

رفعت رأسي فإذا بهما يراقبانني ... أظن أن وجهي كان شديد الاحمرار و يتصبب عرقا ...

القلق كان باد على وجهيهما

قلت :

" الجو حار ... "

أمي سارت نحو المكيف و زادت من قوة دفعه للهواء ...

التفت إلى أبي و قلت :

" و هذان ؟؟ متى ارتبطا ؟؟ "

لم يجب أبي مباشرة ، ثم قال :

" عقدنا قرانهما قبل ما يزيد عن السنوات الثلاث "

مزيد من الاختناق و الضيق ... كأن الهواء قد سحب من الغرفة تماما ...

قلت :

" ألا ترى يا والدي أنهما لا يزالان صغيرين ؟ على الأقل رغد ... صغيرة جدا "

أبي قال :

" إننا لن نزوجهما قريبا على أية حال ، فرغد تود الالتحاق بالجامعة أولا و لا أدري إن كان سامر سيفلح في إقناعها بغير ذلك "

أثارت الجملة اهتمامي ، قلت :

" غير ذلك ؟؟ "

قالت أمي :

" قد نزوج الثلاثة في ليلة واحدة قريبا ! "

و ابتسمت ، ثم قالت :

" و يأتي دورك ! "

وقفت مستاء ، و يممت وجهي شطر المطبخ فأنا أحس بعطش شديد و بحاجة لنهر كامل ليرويني و يخمد نيراني ... و تركت والدي ّ في حيرة من أمرهما ...