









العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف. على أنها حرف مستقل، و هو بعيد. و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، و أنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله. و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، و إنهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. و الله الهادي المبين. الفصل الثامن و الأربعون: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد. فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا. و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه. و هذا معنى اللسان و اللغة. و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد. و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى. و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق. أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة. و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد. و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة. و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. و الله يخلق ما يشاء و يقدر.
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات. و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال. و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر. و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها. و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه.
الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً. و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل. و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي ، و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته. و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة. و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه. و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها. و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب. و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان. و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها. و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)