حفظ الأسرار

وقالوا‏:‏ سرك من دمك فانظر أين تريقه‏.‏ يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك‏.‏ وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف‏:‏ ولا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحا فإني رأيت غواة الرجا ل لا يتركون أديماً صحيحا وقالت الحكماء‏:‏ ما كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك‏.‏ وقال عمرو بن العاص‏:‏ ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه حتى أفشاه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏ إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق قيل لأعرابي‏:‏ كيف كتمانك للسر أجحد المخبر وأحلف للمستخبر‏.‏ وقيل لآخر‏:‏ كيف كتمانك للسر قال‏:‏ ما قلبي له إلا قبر‏.‏ وقال المأمون‏:‏ الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء‏:‏ القدح في الملوك وإفشاء السر والتعرض للحرم‏.‏ وقال الوليد بن عتبة لأبيه‏:‏ إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً ولا أراه يطوي عنك أفلا أحدثك به قال‏:‏ لا يا بني إنه من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه فلا تكن مملوكاً بعد أن كنت مالكاً‏.‏ وفي كتاب التاج‏.‏ أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما‏:‏ لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحد إلا خالياً به فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض‏.‏ فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشائه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة لأن الواحد رهن بما أفشي والثاني مطلق عنه بذلك الرهن والثالث علاوة فيه فإذا كان السر عند واجد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة وإن كان اثنين دخلت على الملك الشبهة‏.‏ واتسعت على الرجلين المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه‏.‏ ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏ فقالت وأرخت جانب الستر إنما معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها ما بي لهم من ترقب ولكن سرى ليس يحمله مثلي وقال أبو محجن الثقفي‏:‏ قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض وأكتم السر فيه ضربة العنق وقال الحطيئة يهجو‏:‏ أغربالاً إذا استودعت سراً وكانونا على المتحدثينا الإذن قال زياد لحاجبه عجلان‏:‏ كيف تأذن للناس قال‏:‏ على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الآداب‏.‏ قال فمن تؤخر قال‏:‏ من لا يعبأ الله بهم‏.‏ قال‏:‏ ومن هم قال‏:‏ الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء‏.‏ وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانباً فقيل له‏:‏ إنك لتباعد من الآذن جهدك‏.‏ قال‏:‏ لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب ثم قال‏:‏ وإن مسيري في البلاد ومنزلي هو المنزل الأقصى إذا لم أقرب ولست وإن أدنيت يوماً ببائع خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب وقد عده قوم تجارة رابح ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي وقال آخر‏:‏ ونحن جلوس ساكنون رزانة وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا وقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية فأذن للأحنف ثم أذن لابن الأشعث فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله‏.‏ فلما رآه معاوية غمه ذلك وأحنقه فالتفت إليه فقال‏:‏ والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله‏.‏ وإنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه‏.‏ وقال هشام الرقاشي‏:‏ أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام قدمت قبلي رجالاً ما يكون لهم في الحق أن يلجوا الأبواب قدامى لو عد قوم وقوم كنت أقربهم قربى وأبعدهم من منزل الذام حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت بباب قصرك أدلوها بأقوام قيل لمعاوية‏:‏ إن آذنك يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس‏.‏ قال‏:‏ وما عليه إن المعرفة لتنفع في الكلب العقور والسبع الهصور والجمل الصؤول فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين وقالت الحكماء‏:‏ لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحمل الأذى ويكظم وقالوا‏:‏ من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له‏.‏ وقال الشاعر‏:‏ كم من فتىً قصرت في الرزق خطوته أصبته بسهام الرزق قد فلجا إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن - وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر - أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفاً في الشمس عند باب المنصور فقال له‏:‏ قد طال وقوفك في الشمس فقال‏:‏ ليطول وقوفي في الظل‏.‏ ونظر آخر إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال له‏:‏ أمثلك يرضى بهذا فقال‏:‏ أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولا يكرم النفس الذي لا يهينها وفي كتاب للهند‏:‏ إن السلطان لا يقرب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم ولكن ينظر ما عند كل رجل منهم فيقرب البعيد لنفعه ويبعد القريب لضره وشبهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت مجاور فمن أجل ضره نفي والبازي الذي هو وحشي فمن أجعل نفعه اقتني‏.‏ استأذن رجل على النبي (ص) وهو في بيت فقال‏:‏ أألج فقال النبي (ص) لخادمه‏:‏ اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان وقل له يقول‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏.‏ وقال النبي (ص)‏:‏ الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع‏.‏ وقال النبي عليه السلام الأولى أذن والثانية مؤامرة والثالثة عزمة إما أن يأذنوا وإما أن يرجع‏.‏ الحجاب قال زياد لحاجبه‏:‏ يا عجلان إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع‏:‏ هذا المنادى إلى الله في الصلاة والفلاح لا تحجبه عني فلا سلطان لك عليه وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان في تلك الساعة ورسول الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد‏.‏ ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان وقد اشتغل ببعض