









قال: فاستجمع من أهل القوة والشجاعة وأهل الخيل الجياد نحو من سبعمائة، وسار فأسرع، فلما دنا من أبي الرواغ قال أبو الرواغ: هذه غبرة الخيل، تقدموا بنا إلى عدونا حتى يقدم علينا الجند، ونحن منهم قريب، فلا يرون أننا تنحينا عنهم ولا هبناهم. قال: فاستقدم أبو الرواغ حتى وقف مقابل المستورد وأصحابه، وغشيهم معقل في أصحابه، فلما دنا منهم غربت الشمس، فنزل فصلى بأصحابه، ونزل أبو الرواغ فصلى بأصحابه في جانب آخر، وصلى الخوارج أيضًا. ثم إن معقل بن قيس أقبل بأصحابه في جانب آخر، وصلى الخوارج أيضًا. ثم إن معقل بن قيس أقبل بأصحابه حتى إذا دنا من أبي الرواغ دعاه فأتاه، فقال له: أحسنت يا أبا الرواغ! هكذا الظن بك، الصبر والمحافظة. فقال: أصلحك الله! إن لهم شدات منكراتٍ، فلا تكن أنت تليها بنفسك، ولكن قدم بين يديك من يقاتلهم، وكن أنت من وراء الناس ردءًا لهم؛ فقال: نعم ما رأيت! فوالله ما كان إلا ريثما قالها حتى شدوا عليه وعلى أصحابه، فلما غشوه انجفل عنه عامة أصحابه، وثبت ونزل، وقال: الأرض الأرض يا أهل الإسلام! ونزل معه أبو الرواغ الشاكري وناسٌ كثيرٌ من الفرسان وأهل الحفاظ نحو مائتي رجل، فلما غشيهم المستورد وأصحابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، وانجفلت خيل معقل عنه ساعة، ثم ناداهم مسكين بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عداس - وكان يومئذ من أشجع الناس وأشدهم بأسًا - فقال: يا أهل الإسلام، أين الفرار، وقد نزل أميركم! ألا تستحيون! إن الفرار مخزاةٌ وعار ولؤم، ثم كر راجعًا، ورجعت معه خيلٌ عظيمة، فشدوا عليهم ومعقل بن قيس يضاربهم تحت رايته مع ناس نزلوا معه من أهل الصبر، فضربوهم حتى اضطروهم إلى البيوت، ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى جاءهم محرز بن شهاب فيمن تخلف من الناس، فلما أتوهم أنزلهم ثم صف لهم، وجعل ميمنةً وميسرة، فجعل أبا الرواغ على ميمنته ومحرز بن بجير بن سفيان على ميسرته ومسكين بن عامر على الخيل، ثم قال لهم: لا تبرحوا مصافكم حتى تصبحوا، فإذا أصبحتم ثرنا إليهم فناجزناهم، فوقف الناس مواقفهم على مصافهم.
قال ابن مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: لما انتهى إلينا معقل بن قيس قال لنا المستورد: لا تدعوا معقلًا حتى يعبي لكم الخيل والرجل، شدوا عليهم شدةً صادقةً، لعل الله يصرعه فيها. قال: فشددنا عليهم شدة صادقة، فانكشفوا فانفضوا ثم انجفلوا ووثب معقل عن فرسه حين رأى إدبار اصحابه عنه. فرفع رايته، ونزل معه ناس من أصحابه، فقاتلوا طويلًا، فصبروا لنا، ثم إنهم تداعوا علينا، فعطفوا علينا من كل جانب، فانحزنا حتى جعلنا البيوت في ظهورنا، وقد قاتلناهم طويلًا، وكانت بيننا جراحةٌ وقتلٌ يسير.
قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه أن عمير بن أبي أشاءة الأزدي قتل يومئذ، وكان فيمن نزل مع معقل بن قيس، وكان رئيسًا. قال: وكنت أنا فيمن نزل معه، فوالله ما أنسى قول عمير بن أبي أشاءة ونحن نقتتل وهو يضاربهم بسيفه قدمًا:
قد علمت أني إذا ما أقشعوا ** عني والتاث اللئام الوضع
أحوس عند الروع ندبٌ أروع
وقاتل قتالًا شديدًا ما رأيت أحدًا قاتل مثله، فجرح رجالًا كثيرًا، وقتل وما أدري أنه قتل، ما عدا واحدًا وقد علمت أنه اعتنقه، فخر على صدره فذبحه، فما حز رأسه حتى حمل عليه رجلٌ منهم فطعنه بالرمح في ثغرة نحره، فخر عن صدره، وانجدل ميتًا، وشددنا عليهم، وحزناهم إلى القرية، ثم انصرفنا إلى معركتنا، فأتيته وأنا أرجو أن يكون به رمق، فإذا هو قد فاظ، فرجعت إلى أصحابي فوقفت فيهم.
قال ابن مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: إنا لمتواقفون أول الليل إذ أتانا رجل كنا بعثناه أول الليل، وكان بعض من يمر الطريق قد أخبرنا أن جيشًا قد أقبل إلينا من البصرة، فلم نكترث، وقلنا لرجل من أهل الأرض وجعلنا له جعلًا، اذهب فاعلم هل أتانا من قبل البصرة جيش؟ فجاء ونحن مواقفو أهل الكوفة، وقال لنا: نعم، قد جاءكم شريك بن الأعور، وقد استقبلت طائفة على رأس فرسخ عند الأولى، ولا أرى القوم إلا نازلين بكم الليلة، أو مصبحيكم غدوة. فأسقط في أيدينا.
وقال المستورد لأصحابه: ماذا ترون؟
قلنا: نرى ما رأيت، قال: فإني لا أرى أن أقيم لهؤلاء جميعًا، ولكن نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه، فإن أهل البصرة لا يتبعونا إلى أرض الكوفة، ولا يتبعنا حينئذ إلا أهل مصرنا، فقلنا له: ولم ذاك؟ فقال: قتال أهل مصرٍ واحد أهون علينا من قتال أهل المصرين؛ قالوا: سر بنا حيث أحببت، قال: فانزلوا عن ظهور دوابكم فأريحوا ساعة، وأقضموها، ثم انظروا ما آمركم به؛ قال: فنزلنا عنها، فأقضمناها؛ قال: وبيننا وبينهم حينئذ ساعة قد ارتفعوا عن القرية مخافة أن نبيتهم؛ قال: فلما أرحناها وأقضمناها أمرنا فاستوينا على متونها، ثم قال: ادخلوا القرية، ثم اخرجوا من ورائها، وانطلقوا معكم بلعجٍ يأخذ بكم من ورائها، ثم يعود بكم حتى يردكم إلى الطريق الذي منه أقبلتم، ودعوا هؤلاء مكانهم، فإنهم لم يشعروا بكم عامة الليل، أو حتى تصبحوا. قال: فدخلنا القرية وأخذنا علجًا، ثم خرجنا به أمامنا، فقلنا: خذ بنا من وراء هذا الصف حتى نعود إلى الطريق الذي منه أقبلنا. ففعل ذلك، فجاء بنا حتى أقامنا على الطريق الذي منه أقبلنا، فلزمناه راجعين، ثم أقبلنا حتى نزلنا جرجرايا.
قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن الحارث، قال: إني أول من فطن لذهابهم؛ قال: فقلت: أصلحك الله! لقد رابني أمر هذا العدو منذ ساعة طويلة، إنهم كانوا مواقفين نرى سوادهم، ثم لقد خفي علي ذلك السواد منذ ساعة، وإني لخائف أن يكونوا زالوا من مكانهم ليكيدوا الناس؛ فقال: وما تخاف أن يكون من كيدهم؟ قلت: أخاف أن يبيتوا الناس، قال، والله ما آمن ذلك؛ قال: فقلت له: فاستعد لذلك، قال: كما أنت حتى أنظر. يا عتاب، انطلق فيمن أحببت حتى تدنو من القرية فتنظر هل ترى منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا! وسل أهل القرية عنهم.
فخرج في خمس الغزاة يركض حتى نظر القرية فأخذ لا يرى أحدًا يكلمه، وصاح بأهل القرية، فخرج إليه منهم ناسٌ، فسألهم عنهم، فقالوا: خرجوا فلا ندري كيف ذهبوا! فرجع إليه عتاب فأخبره الخبر، فقال معقل: لا آمن البيات، فأين مضر؟ فجاءت مضر فقال: قفوا ها هنا، وقال: أين ربيعة؟ فجعل ربيعة في وجه وتميمًا في وجه وهمدان في وجه، وبقية أهل اليمن في وجه آخر، وكان كل ربع من هؤلاء في وجه وظهره مما يلي ظهر الربع الآخر، وجال فيهم معقل حتى لم يدع ربعًا إلا وقف عليه، وقال: أيها الناس، لو أتوكم فبدؤا بغيركم فقاتلوهم فلا تبرحوا أنتم مكانكم أبدًا حتى يأتيكم أمري، وليغن كل رجل منكم الوجه الذي هو فيه، حتى نصبح فنرى رأينا. فمكثوا متحارسين يخافون بياتهم حتى أصبحوا، فلما أصبحوا نزلوا فصلوا، وأتوا فأخبروا أن القوم قد رجعوا في الطريق الذي أقبلوا منه عودهم على بدئهم، وجاء شريك بن الأعور في جيش من أهل البصرة حتى نزلوا بمعقل بن قيس فلقيه، فتساءلا ساعة، ثم إن معقلًا قال لشريك: أنا متبع آثارهم حتى ألحقهم لعل الله أن يهلكهم، فإني لا آمن إن قصرت في طلبهم أن يكثروا. فقام شريك فجمع رجالًا من وجوه أصحابه، فيهم خالد بن معدان الطائي وبيهس بن صهيب الجرمي، فقال لهم: يا هؤلاء، هل لكم في خير؟ هل لكم في أن تسيروا مع إخواننا من أهل الكوفة في طلب هذا العدو الذي هو عدو لنا ولهم حتى يستأصلهم الله ثم نرجع؟ فقال خالد بن معدان وبيهس الجرمي: لا والله، لا نفعل، إنما أقبلنا نحوهم لننفيهم عن أرضنا، ونمنعهم من دخولها، فإن كفانا الله مؤنتهم فإنا منصرفون إلى مصرنا، وفي أهل الكوفة من يمنعون بلادهم من هؤلاء الأكلب؛ فقال لهم: ويحكم! أطيعوني فيهم، فإنهم قوم سوء، لكم في قتالهم أجرٌ وحظوة عند السلطان، فقال له بيهس الجرمي: نحن والله إذًا كما قال أخو بني كنانة:
كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ** بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا
أما بلغك أن الأكراد قد كفروا بجبال فارس! قال: قد بلغني، قال: فتأمرنا أن ننطلق معك نحمي بلاد أهل الكوفة، ونقاتل عدوهم، ونترك بلادنا، فقال له: وما الأكراد! إنما يكفيهم طائفة منكم؛ فقال له: وهذا العدو الذي تندبنا إليه إنما يكفيه طائفة من أهل الكوفة، إنهم لعمري لو اضطروا إلى نصرتنا لكان علينا نصرتهم، ولكنهم لم يحتاجوا إلينا بعد، وفي بلادنا فتقٌ مثل الفتق الذي في بلادهم، فليغنوا ما قبلهم، وعلينا أن نغني ما قبلنا، ولعمري لو أنا أطعناك في اتباعهم فاتبعتهم كنت قد اجترأت على أميرك، وفعلت ما كان ينبغي لك أن تطلع فيه رأيه، ما كان ليحتملها لك. فلما رأى ذلك قال لأصحابه: سيروا فارتحلوا، وجاء حتى لقي معقلًا - وكانا متحابين على رأي الشيعة متوادين عليه - فقال: أما والله لقد جهدت بمن معي أن يتبعوني حتى أسير معكم إلى عدوكم فغلبوني، فقال له معقل: جزاك الله من أخ خيرًا! إنا لم نحتج إلى ذلك، أما والله إني أرجو أن لو قد جهدوا لا يفلت منهم مخبر.
قال ابن مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن أبي أمامة عبيد الله ابن جنادة، عن شريك بن الأعور، قال: حدثنا بهذا الحديث شريك ابن الأعور. قال: فلما قال: والله إني لأرجو أن لو جهدوا لا يفلت منهم مخبر، كرهتها والله له، وأشفقت عليه، وحسبت أن يكون شبه كلام البغي؛ قال: وايم الله ما كان من أهل البغي.
قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن الحارث الأزدي، قال: لما أتانا أن المستورد بن علفة وأصحابه قد رجعوا عن طريقهم سررنا بذلك، وقلنا: نتبعهم ونستقبلهم بالمدائن، وإن دنوا من الكوفة كان أهلك لهم؛ ودعا معقل بن قيس أبا الرواغ فقال له: اتبعه في أصحابك الذين كانوا معك حتى تحبسه علي حتى ألحقك؛ فقال له: زدني منهم فإنه أقوى لي عليهم إن هم أرادوا مناجزتي قبل قدومك، فإنا كنا قد لقينا منهم برحا، فزاده ثلثمائة، فاتبعهم في ستمائة، وأقبلوا سراعًا حتى نزلوا جرجرايا، وأقبل أبو الرواغ في إثرهم مسرعًا حتى لحقهم بجرجرايا، وقد نزلوا، فنزل بهم عند طلوع الشمس، فلما نظروا إذا هم بأبي الرواغ في المقدمة، فقال بعضهم لبعض: إن قتالكم هؤلاء أهون من قتال من يأتي بعدهم.
قال: فخرجوا إلينا، فأخذوا يخرجون لنا العشرة فرسان منهم والعشرين فارسًا، فنخرج لهم مثلهم، فتطارد الخيلان ساعةً ينتصف بعضنا من بعض، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فشدوا علينا شدةً واحدة صدقوا فيها الحملة.
قال: فصرفونا حتى تركنا لهم العرصة. ثم إن أبا الرواغ نادى فيهم، فقال: يا فرسان السوء، يا حماة السوء، بئس ما قاتلتم القوم! إلي إلي! فعالج نحوًا من مائة فارس، فعطف عليهم، وهو يقول:
إن الفتى كل الفتى من لم يهل ** إذا الجبان حاد عن وقع الأسل
قد علمت أني إذا الباس نزل ** أروع يوم الهيج مقدامٌ بطل
ثم عطف عليهم فقاتلهم طويلًا، ثم عطف أصحابه من كل جانب، فصدقوهم القتال حتى ردوهم إلى مكانهم الذي كانوا فيه، فلما رأى ذلك المستورد وأصحابه ظنوا أن معقلًا إن جاءهم على تفئة ذلك لم يكن دون قتله لهم شيء؛ فمضى هو وأصحابه حتى قطعوا دجلة، ووقعوا في أرض بهرسير، وقطع أبو الرواغ في آثارهم فاتبعهم، وجاء معقل بن قيس فاتبع إثر أبي الرواغ، فقطع في إثره دجلة، ومضى المستورد نحو المدينة العتيقة، وبلغ ذلك سماك بن عبيد، فخرج حتى عبر إليها، ثم خرج بأصحابه وبأهل المدائن، فصف على بابها، وأجلس رجالًا رماةً على السور، فبلغهم ذلك، فانصرفوا حتى نزلوا ساباط، وأقبل أبو الرواغ في طلب القوم حتى مر بسماك ابن عبيد بالمدائن، فخبره بوجههم الذي أخذوا فيه، فاتبعهم حتى نزل بهم ساباط.
قال ابن مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: لما نزل بنا أبو الرواغ دعا المستورد أصحابه، فقال: إن هؤلاء الذين نزلوا بكم مع أبي الرواغ هم حر أصحاب معقل، ولا والله ما قدم إليكم إلا حماته وفرسانه، والله لو أعلم أني إذا بادرت أصحابه هؤلاء إليه أدركته قبل أن يفارقوه بساعة لبادرتهم إليه، فليخرج منكم خارج فيسأل عن معقل أين هو؟ وأين بلغ؟ قال: فخرجت أنا فاستقبلت علوجًا أقبلوا من المدائن، فقلت لهم: ما بلغكم عن معقل بن قيس؟ قالوا: جاء فيج لسماك بن عبيد من قبله كان سرحه ليستقبل معقلًا فينظر أين انتهى؟ وأين يريد أن ينزل؟ فجاءه فقال: تركته نزل ديلمايا - وهي قرية من قرى إستان بهرسير إلى جانب دجلة، كانت لقدامة بن العجلان الأزدي - قال: له: كم بيننا وبينهم من هذا المكان؟ قالوا: ثلاثة فراسخ، أو نحو ذلك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)