موضعها فإن حاولت صَنعة رسالة فزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها بميزانِ التِّصريف إذا عَرضت وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنَحت فإنه ربما مَرّ بك موضعٌ يكون مخرج الكلام إذا كتبتَ‏:‏ أنا فاعل أحسنَ من أن تكتب‏:‏ أنا أفعل وموضع آخرً يكون فيه‏:‏ استفعلت أحلى من‏:‏ فعلت‏.‏ فأدِر الكلام على أماكنه وقلِّبه على جميع وُجوهه فأيّ لَفظة رأيتَها أخف في المكان الذي ندبتها إليه وأنزعَ إلى اٍلموضع الذي راودتًها عليه فأوْقعها فيه ولا تجعل اللَفظة قَلِقة في موضعها نافرةً عن مكانها فإنك متى فعلت هجّنت الموضع الذي حاولت تَحسينه وأفسدتَ المكان الذيِ أردت إصلاحه فإنَ وضع الألفاظ في غير أماكنها وقَصْدَك بها إلى غير مًصابها وإنما هو كتَرْقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه ولم تتقارب أجزاؤه فخرج من حَدّ الجدّة وتغيّر حُسْنه كما قال الشاعر‏:‏ إنّ الجديدَ إذا ما زيد في خَلَقٍ تَبَن الناسُ أنّ الثوبَ مَرْقوعُ وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعَذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع وأشدّ اتصالاً بالقُلوب وأخفّ على الأفواه لا سيّما إذا كان المعنى البديع مُترجَما بلفظ مِونِق شريف ومُعايَراً بكلامٍ عَذْب لم يَسِمْه التكليف بميسمه ولم يُفسده التّعقيد باستغلاقه‏.‏ وكتب عيسى بن لَهيعة إلى أخيه أبي الحسن وزَوَر كلامه وجاوز المِقدار في التنطّع فوقع في أسفل كتابه‏:‏ أنيَّ يكون بليغاً من اسمه كان عِيْا وثالثُ الحرف منه أذًى كفيت ميسًّا قال‏:‏ وبلغني أن بعض الكتَّاب عاد بعضَ الملوك فوجده يئن مَن علّة فخرج عنه ومرّ بباب الطاق فإذا بطيْر يدعى الشَفانين فاشتراه وبعث به إليه وكتب كتابَاً وتنطّع في بلاغته‏:‏ وتذكرْ أنه يقال له شَفانين أرجو أن يكون شفاءً من أنين‏.‏ فرفع في أسفل الكتاب‏:‏ والله لو عطستَ ضَبًّا ما كنت عندنا إلا نبطيا فاقصر عن تنًطّعك وسَهِّل كلامك‏.‏ قوله‏:‏ لو عَطست ضبّا يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم فقال‏:‏ لو عَطستَ فنثرت ضباً من عُطاسك لم تُلحَق بالأعراب ولم تكن إلا نَبطيّاً‏.‏ وقد جاء في بعض الحديث‏:‏ إن القِطّ من نثرة عَطْسة الأسد وإن الفأر من نثرة عَطسة الْخِنزير‏.‏ فقال هذا‏:‏ لو أن الضبّ من نَثرتك لم تكن إلا نبطياً‏.‏ وفي هذا المعنى قال مخلد الموصليّ يهجو حَبيبا‏:‏ أنت عندي عربيّ ليس في ذاك كلامْ شَعْر ساقيك وفَخْذي ك خُزامَى وثُمام وضُلوع الصدر من شل وكَ نَبْع وبَشَام لو تحرّكت كذا ان جَفلت منك نَعَام وظباءٌ راتعا ت وَيرابيع عِظام وحَمام يتغنّى حبذا ذاك الْحَمام أنا ما ذنبي لأنْ كذِّبني فيك الأنام وفتًى يحلف ما إن عَرَّقتْ فيه الكرام ثمِ قالوا جاسميّ من بني الأنباط حام كَذبوا ما أنت إلا عربيّ والسّلام وقد رأيتُهم شبّهوا المعنى الخفيّ بالروح الخفي واللفظ الظاهر بالجًثمان الظاهر وإذا لم ينهضِ بالمعنى الشريف الْجَزْل لفظٌ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة ولا النظام مُتّسقاً وتضاؤُل المعنى الحَسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الْحَسناء في الأطمار الرثة‏.‏ وإنما يدل على المعنِى أربعة أصناف‏:‏ لفظ وإشارة وعَقد وخط‏.‏ وقد ذكر له أرسطا طاليس صِنفاً خامساَ في كتاب المنطق وهو الذي يسمى النَصيبة‏.‏ والنَّصيبة‏:‏ الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة وهي الناطقة بغير لفظ ومُشير إليك بغير يد‏.‏ وذلك ظاهر في خَلْق السموات والأرض وكل صامت وناطق‏.‏ وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المَعاني وسافرة عن وُجوهها‏.‏ وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صِنْفان هما‏:‏ القلم واللسان وكلاهما للقلب تَرجمان‏.‏ فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام إلى حدّ الِإنسانية بالكلام ولذلك قال صاحب المنطق‏:‏ حدُ الإنسان الحيّ الناطق‏.‏ وقالت هشام بن عبد الملك‏:‏ إن الله رفع درجة اللَّسان فانطقه بين الجوارح‏.‏ وقال عليّ بن عبيده‏:‏ إنما يُبين عن الإنسان اللسان وعن المودّة العينان‏.‏ وقال آخرً‏:‏ الرجل مخبوء تحت لسانه‏.‏ وقالوا‏:‏ المرء بأصغريه‏:‏ قلبه ولسانه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏ وما المرء إلا الأصغران لسانُه ومَعْقولُه والجسمُ خَلْق مُصَوَّرُ فإنْ طُرّة راقتْك يوماً فربما أمر مَذاقُ العُود والعُود أخضر وللخط صورة معروفة وحِلْية موصوفة وفضيلة بارعة ليست لهذه الأصناف لأنه يقوم مَقامها الإيضاح عند المَشهد ويَفْضُلها في المَغيب لأن الكتب تُقرأ في الأماكن المُتباينة والبُلدان المتفرّقة وتُدرس في كل عصر وزمان وبكل لسان والّلسان وإن كان ذَلْقا فَصيحاً لا يعدو سامعَه ولا يُجاوزه إلى غيره‏.‏
البلاغة

قال سهل بن هارون‏:‏ سياسةُ البلاغة أشدُّ من البلاغة‏.‏ وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ التقرُب من المَعنى البعيد والدَلالة بالقليل على الكثير‏.‏ وقيل لابن المُقفَّع‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ قِلة الْحَصَر والْجُرأة على البَشر قيل له‏:‏ فما العِي قال‏:‏ الإطْراق من غير فِكْرة والتًنحنح من غير غلة‏.‏ وقيل لآخرً‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ تَطْوِيلُ القَصِير وتَقْصير الطويل‏.‏ وقيل لأعرابي‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ حَذْف الفُضول وتَقْريب البعيد‏.‏ وقيل لأرسطاطاليس‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ حُسْن الاستعارة‏.‏ قيل لجالينوس‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ إيضاح المُعْضِل وفَك المُشكل‏.‏ وقيل للخليل بن أحمد‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ ما قَرُب طَرَفاه وبعُدَ مُنتهاه‏.‏ وقيل لخالد بن صَفْوان‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إِصابةُ المعنى والقَصْد للحُجًة‏.‏