~ ~ ~ ~ ~

اصطحبنا حسام بسيارته الصغيرة الضيقة إلى السوق و ظل مرافقا لنا طوال الوقت...
قضينا فترة لا بأس بها هناك ومع ذلك لم يبدِ تذمرا! بل كان غاية في اللطف و التعاون، و السرور كذلك...!
اشتريت العديد من الأشياء...
تعرفون أنه لم يعد عندي ما يكفي من الملابس و الحاجيات ... و أن أشيائي قد احترقت في بيتنا الحزين... و أن القليل الذي اقتنيته لاحقا تركته في المزرعة
كنت أنفق بلا حساب! فالمبلغ الذي تركه وليد معي... كبير و مغر ٍ...
حقيقة شعرت بالخجل و أنا آخذ ظرف النقود منه، و لكنني بالفعل بحاجة إليها... و حتى النقود التي تركها لي أبي رحمه الله قبل سفره إلى الحج، و التي لم أنفق منها ما يذكر، احترقت في مكانها في البيت...
و حتى بقايا رماد البيت المحروق... لم يكن لي نصيب في ورثها...

بعد أن فرغنا من مهمة التسوق اللذيذة عدنا إلى المنزل و ارتديت بعضا من أشيائي الجديدة شاعرة بسعادة لا توصف

فيما بعد... قررنا أنا و خالتي و أبناؤها التنزه في حديقة المنزل...

أبو حسام كان يحب حديقة منزله و يعتني بها جيدا، و بعد أن احترقت شجيراتها في القصف الجوي آنفا، أعاد زراعة و تنظيم الأشجار و العشب... و دبّت الحياة في تلك الحديقة مجددا..

كنت قد اخترت من بين ملابسي الجديدة جلابية زرقاء فضفاضة طويلة الكمين، و وشاحا طويلا داكن اللون، و خاتما فيروزيا براقا لأقضي بهم نزهتي داخل حديقة المنزل...

الجو كان لطيفا و أنسام الهواء عليلة و نشطة... الشمس قد احمر ذيلها في الأفق... و تسابقت غيوم خفيفة على حجب حمرتها الأخاذة عن أعين الناظرين... بينما امتدت الظلال الطويلة على العشب... مضفية عليه خضرة نضرة...
المنظر من حولي خلاب و مبهج للغاية... إنها بدايات الشتاء...

فرشنا بساطا كبيرا على العشب الرطب، و جلسنا نحن الخمسة فوقه نتناول المكسرات و نتبادل الأحاديث... و نتسلى بلعبة الألغاز الورقية !
لقد كنت آنذاك مسرورة و مرتاحة... و غاية في الحيوية و المرح !



~~~~~~~~~~


عندما فـُتـِحت البوابة، وجدت ُ حسام في استقبالي...

تبادلنا التحية و لم يحاول إخفاء علامات التعجب و الاستنكار الجلية على وجهه و هو يستقبلني دون سابق إعلام...



دعاني للدخول، فسرت إلى جانبه و أنا أشعر ببعض الحرج من زيارتي المفاجئة هذه...



هنا وصلتني أصوات ضحكات جعلتني التفت تلقائيا نحو المصدر...



على بساط مفروش فوق العشب في قلب الحديقة كانت أربع نسوة يجلسن في شبه حلقه مستديرة...



جميعهن التفت إلي ّ لدى ظهوري في الصورة و جميعهن أخرسن ألسنتهن و بدين مندهشات !



غضضت بصري و تنحنحت ثم ألقيت التحية... و سمعت الرد من أم حسام مرحبة بي...



" تفضّل يا وليد... أهلا بك... "



قال حسام :



" تعال شاركنا "



و هو يحثّني على السير نحو البساط... و أضاف :



" كنا نتسلى بالألغاز ! الجو منعش جدا "



وقفت شقيقة حسام الكبرى ثم الصغرى هامتين بالانصراف فقلت :



" كلا... معذرة على إزعاجكم كنت فقط أود إلقاء التحية و الاطمئنان على ابنة عمّي"



أم حسام قالت مباشرة :



" أي إزعاج يا وليد؟ البيت بيتك و نحن أهلك... تفضّل بني "



" شكرا لك خالتي أم حسام... أدام الله عزك "



كل هذا و عيني تحدّق في العشب في خجل...



و تمكنت من رفعهما أخيرا بحثا عن رغد... و رأيتها جالسة بين ابنتي خالتها... و هي الأخرى تبعثر نظراتها على العشب !



يا إلهي كم اشتقت إليها !... لا أصدق أنها أمامي أخيرا...



" كيف حالك يا رغد ؟ "



التفتت رغد يمنة و يسرة كأنها تبحث عن مصدر الصوت!



هذا أنا يا رغد ! هل نسيت صوتي ؟؟



ثم رأيتها تبتسم و يتورد خداها و تجيب بصوت خافت :



" بخير "



لم يكن جوابا شافيا ! أنا أريد أن أعرف تفاصيل كل ما حصل مذ تركتك ِ هنا تلك الليلة و حتى هذه اللحظة ! ألا تعلمين كم كنت مشغول البال بك ؟؟



" كيف تسير أمورك صغيرتي ؟ "



و ابتسمت ابتسامة أكبر... و قالت :



" بخير ! "



بخير ... بخير !



كل هذا و هي لا ترفع نظرها عن العشب الرطب...



قلت :



" الحمد لله... "



قالت أم حسام :



" تفضّل بالجلوس "



قال حسام :



" سأصطحبه إلى المجلس ... "



و خاطبني :



" تفضّل وليد "



لم أجد بدا من مرافقته ... فذهبت تاركا عقلي مرميا و مبعثرا هو الآخر فوق ذات العشب !



في ذلك المجلس كان أبو حسام يشاهد الأخبار ... و بعد الترحيب بي فتحنا موضوع المظاهرات و العمليات الاستشهادية النشطة و عمليات الاعتقال و الاغتيالات العشوائية التي تعيشها البلدة بشكل مكثف في الآونة الأخيرة...

و كذلك المنظمات السرية المعادية التي يتم الإيقاع بعملائها و زجّهم إلى السجون أو قتلهم يوما بعد يوم...



الأنباء أثارت في نفسي كآبة شديدة و مخاوف متفاقمة خصوصا بعد أن علمت من أبي حسام عن تورط بعض معارفه في إحدى المنظمات المهددة بالخطر...



و حكيت له الصعوبات التي واجهناها مع السلطات أثناء رحلتـَي ذهابنا و عودتنا إلى و من المدينة الساحلية...



و تعرفون كم أكره الشرطة و أرعب منهم...



فيما بعد... خرجنا نحن الثلاثة من المنزل قاصدين الذهاب إلى المسجد...

و نحن نعبر الحديقة رأيت رغد مع ابنتي خالتها و هن لا يزلن يجلسن على ذلك البساط و يلهون بأوراق الألغاز...



حسام هتف سائلا :



" من فاقكن ذكاء ؟ "



أجابت شقيقته الصغرى :



" رغد ! إنها ذكية جدا "



ضحك حسام و قال :



" استعيري شيئا منها ! "

و انطلقت ضحكة عفوية من رغد...



حسام قال بمرح :



"... سأغلبك ِ في الجولة المقبلة يا رغد ! استعدّي "



قالت رغد و هي تنظر إله بتحد :



" قبلت التحدّي ! "



حسام ضحك و قال بإصرار :



" سترين أنا عبقريتي... انتظري فقط ! "



و ضحكت رغد بمرح...



كل هذا و أنا... واقف أسمع و أتفرج و أخرس لساني و أكتم في صدري غضبا شديدا...






~~~~~~~~