









ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة. قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك - وكان الملك يومئذ اسمه السبلي في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر عي عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه. إلى الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله. قال: فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعة إخوة قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: إن الأسد تقل أولادها، والخنازير كثير أولادها. ووجه المهلب ابنه حبيبًا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفًا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة. ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب قال: فمكث المهلب سنتين مقيمًا بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين. قال: وخرج رجل من العدو بومًا فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عد لوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قومًا من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم؛ وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فقال المهلب: خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري. ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج.
تسيير الجنود مع ابن الأشعث لحرب رتبيل
وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك؛ وقد اختلف أهل السير في سبب توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل؛ فأما يونس بن أبي إسحاق - فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه - فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم وأما ما أردت أن يأتيك فيه من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذي أصيب فيه المسلمون أو كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدًا موفقًا. وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسًا حين دخل عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه. قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثًا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له؛ فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء. ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملًا وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال عباد: ما رأيت فرسًا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغلة علنداة، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج؛ يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمي فعسكر بالأهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب. ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانًا. فقال الحجاج: ليس هنالك، هولى أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي؛ فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان ينة ثمانين؛ فجمع أهلها حين قدمها.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي - رجل من همدان كان معه - أنه صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسركهم ووضعت له الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارهًا، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقًا رستاقًا، وحصنًا حصنًا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدًا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانًا، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضًا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.
ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم. وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدى السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج بن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه. ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملًا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشًا أنفق عليهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثن أجمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان على المدينة في هذه السنة آبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن محمد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا.
ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان
وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله
وكان سبب قتله أن بحيرًا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر:
لعمري لقد أغضبت عينًا على القذى ** وبت بطينا من رحيق مروق
وخليت ثأرًا طل واخترت نومة ** ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ** تركت بحيرًا في دم متر قرق
فقل لبحير نم ولا تخش ثائرًا ** بعوف فعوف أهل شاة حبلق
دع الضأن يومًا قد سبقتم بوتركم ** وصرتم حديثًا بين غرب ومشرق
وهبوا فلوا أمسى بكير كعهده ** صحيحًا لغاداهم بجأواء فيلق
وقال أيضًا:
فلو كان بكر بارزًا في أداته ** وذي العرش لم يقدم عليه بحير
ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ** وفي الله طلاب بذاك جدير
وبلغ بحيرًا أن الأنباء يتوعدونه، فقال:
توعدني الأنباء جهلًا كأنما ** يرون فنائي مقفرًا من بني كعب
رفعت له كفي بحد مهند ** حسام كلون الملح ذي رونق عضب
فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفًا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل. ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارًا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابةً لبحير هنالك ولا طفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثًا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرًا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابًا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز. قال: فلقي قومًا من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرًا، فعمل له خنجرًا وأحماه وغمسه في لبن أتان مرارًا، ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بأخرون يومئذ، فلقى بحيرًا بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرًا أو نحوًا من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به، قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدًا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يومًا وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه يكلمه، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثارات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسًا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكني ما صنعت خاليًا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرًا؛ فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسًا بالموت صبرًا من هذا؛ وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبجير، فقال له أنس بن طلق: ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشمه أنس وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل أن يموت، فقال له أنس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرًا، فاستحي هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إنا لله وإنا إليه راجعون، غزوة أصيب فيها بحير؛ فغضب عوف بن كعب والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجي: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواءً ببكير فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتى تجاوز همه ** دون العراق مفاوزًا وبحورًا
ما زال يدأب نفسه ويكدها ** حتى تناول في خرون بحيرا
قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فأخذ لصعصعة ديتين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)