









وذكر أبو بكر الباهلي، قال: سمعت أنس بن أبي شيخ، يقول: لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير، قال: لعن الله ابن النصرانية - قال: يعني خالدًا القسري، وهو الذي أرسل به من مكة - أما كنت أعرف مكانه! بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد، ما أخرجك على؟ فقال: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة، قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره، قال: فعاوده في شيء، فقال له: إنما كانت له بيعة في عنقي؛ قال: فغضب وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، فقال: يا سعيد. ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك! قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليًا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية! قال: بلى؛ قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك! اضربا عنقه؛ قال: فإياه عني جرير بقوله:
يا رب ناكث بيعتين تركته ** وخضاب لحيته دم الأوداج
وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال: أتى الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز - أو الركاب - فقال: والله لا أركب حتى تبوء مقعدك من النار، اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فالتبس مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه قال: القيود التي على سعيد بن جبير: فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. قال محمد بن حاتم: حدثنا عبد الملك بن عبد الله عن هلال بن خباب قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: أكتبت إلى مصعب ابن الزبير؟ قال: بل كتب إلى مصعب؛ قال: والله لأقتلنك؛ قال: إتي إذًا لسعيد كما سمتني أمي! قال: فقتله؛ فلم يلبث بعده إ لا نحوًا من أربعين يومًا، فكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول: يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: مالي ولسعيد بن جبير! مالي ولسعيد ابن جبير! قال أبو جعفر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، مات فيها عامة فقهاء أهل المدينة، مات في أولها علي بن الحسين عليه السلام ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. واستقضى الوليد في هذه السنة بالشام سليمان بن حبيب واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، فقال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه - قال: حج بالناس مسلمة بن عبد الملك سنة أربع وتسعين وقال الواقدي: حج بالناس سنة أربع وتسعين عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك - قال: ويقال: مسلمة بن عبد الملك. وكان العامل فيها على مكة خالد بن عبد الله القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان المري، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر ابن أبي موسى، وعلى البصرة الجراح بن عبد الله. وعلى قضائها عبد الرحمن ابن أذينة وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين
ذكر الأحداث التي كانت فيها
ففيها كانت غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون فيما قبل، وهي: طولس، والمرزبانين، وهرقلة. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفيها بنيت واسط القصب في شهر رمضان وفيها انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس، وضحى بقصر الماء - فيما قيل - على ميل من القيروان.
بقية الخبر عن غزو الشاش
وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش
ذكر الخبر عن غزوته هذه
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد، قال: وبعث الحجاج جيشًا من العراق فقدموا على قتيبة سنة خمس وتسعين، فغزا فلما كان بالشاش - أو بكشماهن - أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه ذلك، وقفل راجعًا إلى مرو، وتمثل:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ** بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ** فما في حياة بعد موتك طائل
قال: فرجع بالناس ففرقهم، فخلف في بخارى قومًا، ووجه قومًا إلى كس ونسف، ثم أتى مرو فأقام بها، وأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك كالذي يجب لك، فالمم مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك؛ حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت به وفيها مات الحجاج بن يوسف في شوال - وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة - وقيل: كانت وفاته في هذه السنة لخمس ليال بقين من شهر رمضان وفيها استخلف الحجاج لما حضرته الوفاة على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج وكانت إمرة الحجاج على العراق فيما قال الواقدي عشرين سنة وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو من ألف رجل معه. وفيها - فيما ذكر - ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وفيها ولي الوليد بن عبد الملك يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: الكوفة والبصرة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم. وقيل: إن الحجاج كان استخلف حين حضرته الوفاة على حرب البلدين والصلاة بأهلهما يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موت الحجاج على ما كان الحجاج استخلفهما عليه، وكذلك فعل بعمال الحجاج كلهم، أقرهم بعده على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته. وحج بالناس في هذه السنة بثر بن الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنهما ضمتا إلى من ذكرت بعد موت الحجاج.
ثم دخلت سنة ست وتسعين
ذكر الأحداث التي كانت فيها
ففيها كانت - فيما قال الواقدي - غزوة بشر بن الوليد الشاتية، فقفل ومات الوليد.
ذكر الخبر عن موت الوليد بن عبد الملك
وفيها كانت وفاة الوليد بن عبد الملك، يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين في قول جميع أهل السير. واختلف في قدر مدة خلافته، فقال الزهري في ذلك - ما حدثت عن ابن وهب عن يونس عنه: ملك الوليد عشر سنين إلا شهرًا. وقال أبو معشر فيه، ما حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت خلافة الوليد تسع سنين وسبعة أشهر، وقال هشام بن محمد: كانت ولاية الوليد ثمان سنين وتسعة أشهر. وقال الواقدي: كانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين. واختلف أيضًا في مبلغ عمره، فقال محمد بن عمر: توفي بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة وأشهر.
وقال هشام بن محمد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة. وقال عليبن محمد: توفي وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر. وقال علي: كانت وفاة الوليد بدير مران، ودفن خارج باب الصغير. ويقال: في مقابر الفراديس. ويقال: إنه توفي وهو ابن سبع وأربعين سنة. وقيل: صلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكان له - فيما قال علي - تسعة عشر ابنًا: عبد العزيز، ومحمد، والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمر، وروح، وبشر، ويزيد، ويحيى؛ أم عبد العزيز ومحمد وأم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى.
ذكر الخبر عن بعض سيره
حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادمًا، وكل ضرير قائدًا، وفتح في ولايته فتوح عظام؛ فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر. وفتح محمد بن القاسم الهند. قال: وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عنده فيأخذ حزمة البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول بفلس فيقول زد فيها. قال: أتاه رجل من بني مخزوم يسأله عن دينه، فقال: نعم، إن كنت مستحقًا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقًا لذلك مع قرابي! لذلك، قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل ضم هذا إليك، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام إليه عثمان ابن يزيد بن خالد بن عبد الله بن أسيد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن على دينًا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم، قال: مرض الوليد فرهقته غشية، فمكث عامه يومه عندهم ميتًا، فبكى عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج، فاسترجع، ثم أمر بحبل فشد في يديه، ثم أوثق إلى اسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له، فقد طالما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته! وجعل يدعو، فإنه لكذلك إذ قدم عليه بريد بإفاقته. قال علي: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج؛ فقال عمر بن عبد العزيز: ما أعظم نعمة الله علينا بعافيتك، وكأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر فيه أنه لما بلغه برؤك خر الله ساجدًا، وأعتق كل مملوك له، وبعث بقوارير من أنبج الهند. فما لبث إلا أيامًا حتى جاء الكتاب بما قال. قال: ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضئ الوليد يومًا للغداء، فمد يده، فجعلت أصب عليه الماء وهو ساه والماء يسيل ولا أستطيع أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي، وقال: أناعس أنت! ورفع رأسه إلي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ قلت: لا؛ قال: ويحك! مات الحجاج! فاسترجعت. فقال: أسكت ما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها.
قال علي: وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع. فولى سليمان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان يسأل الناس بعضهم بعضًا عن التزويج والجواري. فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ ورثى جرير الوليد فقال:
يا عين جودي بدمع هاجه الذكر ** فما لدمعك بعد اليوم مدخر
إن الخليفة قد وارت شمائله ** غبراء ملحدة في جولها زور
أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم ** مثل النجوم هوى من بينها القمر
كانوا جميعًا فلم يدفع منيته ** عبد العزيز ولا روح ولا عمر
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حج الوليد بن عبد الملك، وحج محمد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد: يا أمير المؤمنين، اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل من أم البنين إلى محمد فيها، فأبى وقال: ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه - وكانت هدايا كثيرة - فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا محمد أن تصرف إلي، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت: بلغني أنه غصبها الناس، وكلفهم عملها، وظلمهم. وحمل محمد المتاع إلى الوليد، فقال: بلغني أنك أصبتها غصبًا، قال: معاذ الله! فامر فاستخلف بين الركن والمقام خمسين يمينًا بالله ما غصب شيئًا منها، ولا ظلم أحدًا، ولا أصابها إلا من طيب؛ فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات محمد بن يوسف باليمين، أصابه داء تقطع منه. وفي هذه السنة كان الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سليمان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: كان الوليد وسليمان وليي عهد عبد الملك، فلما أفضى الأمر إلى الوليد، أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان، فأبى سليمان، فأراده أن يجعله له من بعده، فأبى، فعرض عليه أموالًا كثيرة، فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك؛ فلم يجبه أحد إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس. فقال عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه. فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم، فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، فمرض، ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك. قال عمر: قال علي: وأخبرنا أبو عاصم الزيادي عن الهلواث الكلبي، قال: كنا بالهند مع محمد بن القاسم، فقتل الله داهرًا، وجاءنا كتاب من الحجاج أن اخلعوا سليمان، فلما ولى سليمان جاءنا كتاب سليمان، أن ازرعوا واحرثوا، فلا شام لكم، فلم نزل يتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا. قال عمر: قال علي: أراد الوليد أن يبني مسجد دمشق، وكانت فيه كنيسة، فقال الوليد لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل رجل منكم بلبنة، فجعل كل رجل يأتيه بلبنة، ورجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق؛ قال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة! وهدموا الكنيسة وبناها مسجدًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا ذلك إليه، فقيل: أن كل ما كان خارجًا من المدينة افتتح عنوة، فقال لهم عمر: نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما، فإنها فتحت عنوة، نبنيها مسجدًا، فلما قال لهم ذلك قالوا: بل ندع لكم هذا الذي هدم الوليد، ودعوا لنا كنيسة توما. ففعل ذلك عمر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)