رفض كل من أخي ورغد إطلاعي على موضوع الحوار الذي دار بينهما... لكني لم أسكت على الدموع التي رأيت آثارها في وجه رغد ليلتها...
"حسنا... أنا لن أطلب منك إخباري بتفاصيل الموضوع وسأنسى أنني من جلبها وأعادها في قلب الليل وأن الحديث دار في شقتي أنا... لكنني لن أتغلضى عن جرحك لها وجعلها تبكي يا وليد".
نفثت كلامي بانفعال أمام أخي, الجالس بصمت يشرب الماء البارد... ويبتلع قطع الجليد الصغيرة السابحة في الكأس.
تجاهل أخي كلامي فغضبت وقلت:
"أكلمك يا وليد ألا تسمع؟"
نظر أخي إلي من خلال زجاج الكأس الشفاف الذي يحمله في يده وأجاب:
"اسمع".
فقلت:
"إذن أخبرني.. لماذا جعلتها تبكي؟ لماذا تعاملها بخشونة؟"
أجاب أخي:
"ليس من شأنك يا سامر وأرجوك... أنا متعب كفاية... دعني أسترخي".
فقلت مستنكرا:
"ليس شأني؟؟ كيف تقول هذا؟ إنها ليست ابنة عمك وحدك..."
وكأن الجملة أثارت أخي فقال بحدة:
"الأمر لا يعنيك يا سامر فرجاء لا تتدخل".
فقلت غاضبا:
"بل يعنيني... أنا لا أتحمل رؤية رغد تبكي أو تتألم... ولا أسمح لك بأن تسبب لها هذا".
وقف أخي فجأة... وألقى بالكأس بعنف نحو الأرض فتكسر...
ثم صرخ غاضبا:
"أما زلت تفكر بها؟؟...سامر ... أيها الأحمق... إنها لا تكترث بك".
جفلت ولم أستطع التعقيب.
اقترب أخي مني حتى صار أمام وجهي مباشرة وإذا به يسألني:
"ألا زلت تحبها؟؟"
ففارت الدماء في وجهي... لم أكن أتوقع منه هذا السؤال وهكذا مباشرة... أخي أمسك بذراعي بقوة وقال:
"لقد رأيت ما تخفيه في خزانتك... يا لك من بائس... تخلص منها تماما... إنها لا تفكر بك.. ولن تعود إليك... لا تتعب نفسك... انسها نهائيا".
وطعن كلام أخي على جرح قلبي مباشرة... فأبعدت يده عني فعاد وأمسك بي وأعاقني عن الحركة وقال:
"أخرجها من رأسك نهائيا يا سامر... ولا تدافع عنها فهي خائنة وتستحق العقاب".
عند هذا لم أتمالك نفسي ودفعت بأخي بقوة حتى ارتطم بالجدلر.
وأوليته ظهري قاصدا الخروج من المكان غير أنه أمسك بي فجأة وجذبني في اتجاهه ولوى ذراعي...
وهو يقول:
"أجب على سؤالي أولا".
حاولت الفكاك منه ولكنه كان يطبق علي ويعيق حركتي كلما أردت التملص.
هتفت:
"اتركني وليد".
رفست بطنه بركبتي حتى أبعده عني. وبصراحة رفستي لم تكن قوية... لكن أخي أطلق صرخة ألم واندفع مبتعدا عني... وأمسك ببطنه وراح يتلوى. ثم إذا به يجثو على الأرض بالضبط فوق شظايا الكأس المكسور دون أن ينتبه لها... ويحني رأسه إلى الأرض ويتقيأ الماء الذي شربه قبل قليل... ممزوجا بالدم...
هلعت لمنظر أخي... وأقبلت إليه قلقا ومددت يدي نحوه, غير أنه أبعدها بفظاظة وأخذ يتلوى... وأخيرا نهض وسار نحو الباب.
"إلى أين؟؟"
فالوقت كان قد تجاوز الواحدة ليلا... ويفترض به المبيت عندي... ووضعه لا يسمح بالمغادرة...
تبعته وحاولت استيقافه إلا أنه صدني وغادر الشقة...
وقبل غروب الشمس التالية اتصل بي وأخبرني بأنه في طريقه إلى المطار...
مسافرا إلى الجنوب.
سافر أخي إلى المدينة الساحلية... وغاب عنا بضعة أسابيع...
جاء سفره مفاجئا ودون سابق تخطيط وتهيئة... وتوقعت أن أواجه موقفا صعبا مع رغد لدى إبلاغها عن هذا... فكتمت النبأ عمدا في البداية...
وفي الآونة الأخيرة لاحظت أن رغد لحد ما قد هدأت... أعني أنها لم تعد تثور وتغضب بسرعة... بل بدت مستسلمة لما نقوله لها بدون جدال... صحيح أن حالتها هذه لم ترضني لكنها على الأقل أفضل من التهيج الشديد الذي سبقها, وكذلك أبدت تجاوبا جيدا مع برنامج العلاج في المستشفى وحضرت المواعيد التالية بلا اعتراض...
والأهم...أنها توقفت عن الاتصال بهاتف وليد وعن السؤال عنه... اعتقدت أن مادرا بينهما تلك الليلة قد أراحها بشكل ما... وأن اعتقادها أن وليد في الجوار هدأ نفسيتها...
وخشيت إن أنا كشفت لها حقيقة سفره الآن أن تتقلب بها الأحوال, فواصلت كتم النبأ إلى أن حل هذا اليوم... والذي قرر فيه الطبيب أخيرا نزع جبيرة يدها...
بعد أن نزعت الجبيرة... وحركت رغد يدها... رأيت ابتسامة تشع على وجهها ولأول مرة مذ قدمت إلى المدينة الصناعية.. وبمجرد أن غادرنا عيادة الطبيب قالت لي:
"سأتصل بوليد وأخبره بأنني أستطيع تحريك يدي كالسابق, لا بد وأنه سيفرح للخبر!"
واستخرجت هاتفها واتصلت به ولم يرد, فحمدت الله في داخلي... لكنها سرعان ما فكرت بالاتصال بالمزرعة والسؤال عنه... حينها لم أجد مناصا من إطلاعها على الحقيقة...
ساعتها تجهم وجه رغد واختفت تماما آثار الابتسامة التي عبرت على وجهها قبل قليل... أحسست بالندم على تسببي بقتل بهجتها القصيرة... ولكي أشجعها ادعيت أن وليد قد أعرب لي عن عزمه اصطحابنا معه في المرة المقبلة... ولم يكن هناك جدوى من ادعائي.
ومضت الأيام والأسابيع وهي على حالها من الكآبة وفقدان الاهتمام بأي شيء.. حتى أنها نحلت أكثر مما هي نحيلة وانطوت على نفسها أكثر مما هي منطوية وما عدت أطيق رؤيتها بهذه الحال...
الشيء الوحيد على الأقل.. الذي صرفت إليه بعض الاهتمام... كان الرسم, ولكي أشجعها على الانشغال به وطرح الأحزان جانبا جلبت لها عدة الرسم كاملة, ووعدتها كذلك بشراء حاسوب محمول مع ملحقاته وكتبه... عما قريب...
أما وليد فكما فاجأني بسفره فاجأني بعودته ذلك اليوم...
صدمت للوهلة الأولى عندما دخلت شقتي ورأيته جالسا يشاهد التلفاز... وقد كان وجهه شاحبا هزيلا ملتحيا, وقد خسر جسمه عدة أرطال.
ولا لم يبد أنه قد حلق شعره أو ذقنه منذ لقائي الأخير به قبل أربع أسابيع...
وقف ليحييني ويصافحني, فحييته وسألته:
"ماذا حل بجسدك؟؟!"
فابتسم ورد:
"القرحة حرمتنا من الطعام..."
فسألت:
"هل تراجع طبيبا؟"
فأجاب:
"لا وقت لذلك, العمل مضغوطا جدا وبالكاد نتنفس".
وتبادلنا حديثا قصيرا عرفت فيه أنه عائد من أجل شؤون عمل تتطلب توقيع زوجته شخصيا على بعض الوثائق الهامة...
"ولكن.. ألست موكلا للتصرف بكل شيء... توكيلا شاملا ورسميا".
فأجاب:
"بلى, لكن هناك بعض الاستثناءات الضرورية".
أطرقت برأسي برهة, وراودني سؤال طارىء لم يسبق لي أن طرحته على أخي:
"متى ستتزوجان؟"
ألقى علي أخي نظرة لا مبالاة, ثم أدار وجهه بعيدا عني... واستخرج من أحد جيوبه قرصا دوائيا ووضعه في فمه. ثم جذب نفسا عميقا ثم قال:
"إنني أريد على الأقل.. أن تسير أمور المصنع كما يجب. أروى لا تفكر في حجم الخسائر التي ستلم بثروتها إن هي بقيت عالقة في الشمال وأملاكها مزروعة في الجنوب.
لولا السيد أسامة المنذر بعد الله لفاتها الكثير.. ليس جميع موظفي المصنع والشركة بأمانة المنذر... يجب أن يبقي صاحب الأملاك عينه مفتوحة على ثرواته... يجب أن تعود إلى الجنوب".
فهمت حرص أخي على أموال زوجته, وتفانيه في العمل لأجلها, وقلت:
"البركة فيك يا أخي".
فنظر إلي وأوشك أن يقول شيئا لكنه تراجع والتزم بالصمت.
ثم عاد وقال:
"أنا لا أريد العيش وحيدا هناك... أريد عائلتي من حولي... المنزل كبير وكئيب..."
فانتهزت الفرصة وسألت:
"ماذا عن عودتنا أنا ورغد؟"
وكأن السؤال أوجعه أو صب خل الليمون الحامض على معدته فإذا بي أرى وجهه يتألم ويده ترتفع إلى موضع معدته وفمه يطلق آهة مريرة...
قلت قلقا:
"أأنت بخير؟"
وما كان من وليد إلا أن وقف واستدار باتجاه الباب... قال أخيرا وهو ينصرف:
"ليس بعد... دعهم ينزعون جبيرة رجلها أولا... أراك لاحقا".
عندما وصل إلى الباب توقف واستدار إلي وقال:
"لا تخبرها عن حضوري".

*****************************