








كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة ما. وما كدتأغفو حتى أيقظني من غفوتي أصغر أولاد حسان، الذي استيقظ باكراً وراح يبكي بكاء رضيعيطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية.
حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته علىقول ما يريد دون كلام.
في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة، فقدتلغتي.
شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي، وأنها جاءت بي إلى هنا، لتقنعنيبذلك لا غير!
ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري.
لقد هزمت من مرّواقبلي، وصنعت من جنونهم بها أضرحة للعبرة.
وأنا آخر عشاقهالمجانين..
أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمققسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبهاعمراً؟
وكانت تشبهك..
تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجةلتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.
كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.
وكانوا رجالاً.. في غرورالعسكر!
من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهمآخرون.
تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.
تركواتماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..
.. ورحلوا.
لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".
أحسد ذلك الإمبراطور الرومانيالمغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بهالأسباب تاريخية محض.
وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.
وربما لذلك، يحدثأن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتهاالأولى.
تماما.. كما أناديك "حياة".
ككلّ الغزاة.. أخطأقسطنطين.
المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناهااسمنا.
لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ،وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.
كنسائها كانت تغريبالفتوحات الوهمية..
ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!
هنا أضرحةالرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحدوأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.
هنا وقفت جيوشفرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.
فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركتفيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.
منذ ذلك اليوم، ولد أكثر منجسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.
ولكن، كانت الصخرةدائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!
ها هيمدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كلسائح.
تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر منوليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.
هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بينالدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.
كلشيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ماكان ينتظرهم على الطرف الآخر.
ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه،قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما فيفوقه.. وما تحته.
تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر،والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.
وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.
ترى لأننيأتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة علىجسر؟
***
هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر.
خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين..
قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته.
كان جدّي يومها أضعف من أن يقف بمفرده في وجه ذلك الأمر القاطع بالقتل. وكان أيضاً أكبر من أن يُقاد ليقف بين يدي ذلك الباي ذليلاً..
ولذا عندما أرسل الباي من يحضره إليه.. كان جدي جثة في هوة سحيقة كهذه، أسفل وادي الرمال، فقد رفض أن يمنح الباي شرف قتله.
سمعت هذه القصة مرة واحدة من فم أبي، يوم سألته عن سر هذا الاسم الذي نحمله.
يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى.
أعيد نظري إلى أسفل.
ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟
تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة.
هذه هي قسنطينة..
مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى.
تراها تغيّرت؟
أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها!
ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟
تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟
ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض.
أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها.
يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)