








القتلة, بل أن تكون لككرامة.
في صيف مازافران, أيام الخوف والغبن والذعر اليومي, كنت أدري أنها تقيمبمحاذاتي في بيتها الصيفي, على الشاطئ الملاصق لي, على النصف الآخر من العالمالمناقض لبؤسي, في شاطئ (نادي الصنوبر), حيث توجد محمية بنجوم أكثر, محجوزة فيلاتهالكبار القوم.
وكان في هذا عذاب لم أحسب له حساباً . أنا الذي اختار ذلك المنفىلأحتمي من حبها, أكثر من احتمائي من القتلة, وإذ الأمن العاطفي هو أول مافقدت.
أمن هناك تغذت كراهيتي لها ونما تمردي عليها؟ أن تكون بمحاذاتي, ولكندائما في الجهة الأخرى المناقضة لي, لا شيء يوصلني إليها, هي التي لا يفصلني عنهامطر, ولا شمس, ولا رمل, ولا بحر.. ولا ذعر.
أحيانا كنت أخرج إلى الشرفةأنتظرها بوحشة فنار بحري في ليل ممطر. عسى قوارب الشوق الشتوي تجنح بهاإلي.
أحلم بشهقة المباغتة الجميلة. بارتعاد لوعتها عند اللقاء. باندهاش نظرتها . بضمتها الأولى. كعمر بن أبي ربيعة " أقلّب طرفي في السماء لعله\ يوافق طرفي طرفهاحين تنظر". ثم أذهب إلى النوم, ممنيا نفسي بالمطر, عساه يعمدنا على ملة العشق فيغفلة من الموت والقتلة.
مراد الذي قاسمني غرفتي الأمنية بعض الوقت, قبل أن يتحولمن محميّ من السلطة إلى طريدتها. كان يعجب من وقوفي طويلا في الشرفة ويناديني إلىالداخل لأشاطره كأسا وشيئاً من الطرب.
ولكوني ما كنت من مدمني الشرب, ولا منهواة الصخب, كثيرا ما أزعجه اعتذاري, وأساء فهم أعذاري, وخرج إلى الشرفة ليسحبنينحو الداخل قائلاً بتذمر لا يخلو من خفة دم تميزه:
- يا راجل واش بيك.. يلعنبوها حياة. واش راك تخمم؟ شوف أنا ما على باليش بالدنيا.. يروحوا كلهميقوّدوا..
كان مراد يمثل نكبة الجزائري مع بحره. يرى بحراً لا يدري كيف يقيم معهعلاقة سليمة. فبين البحر وبينه توجس وريبة وسوء فهم تاريخي. ولذا كنا نسكن مدينةشاطئية جميلة تولي ظهرها للبحر, ويبادلها البحر عدم الاكتراث.
هناك أدركت قولبورخيس " البحر وحيد كأعمى" .. أو ربما أدركت أنني كنت البحر!
***
عندما هاتفته في الصباح عاتبني لأنه تعب في الحصولعلى رقمي في باريس, ثم بسخريته الجزائرية المحببة إلى قلبي راح يمازحني مدعياً أننينسيته مذ حصلت على جائزة لجيفة كلب بدل أن أصور وسامته التي دوخت الأوربيات, حتىأصبحت سيارة الإسعاف تسير وراءه لإخلاء من يقعن مغمى عليهن.. لدى رؤيته.
- " الأمبيلانس" يا خويا وراي.. أنا نمشي وهي تهز في البنات..كيفاش ندير قل لي يرحمباباك؟!
مراد كان يفوت الفرصة على الموت بالاستخفاف به. وربما كان مديناً لوجودهعلى قيد الحياة بمرحه الدائم, ومديناً لجمال يشع منه, باستخفافه أيضاً بالجمال, متجاوزا بذلك عقدة خلقته.
وفي هذا السياق كان يسميني " الدحدوح" ليذكرني أنوسامتي النسبية لن تغطي على بشاعته. وكانت له في هذا نظرية تستند إلى مقولة المغنيالفرنسي سيرج غاسبور " إن البشاعة أقوى من الجمال لأنها أبقى". فبرغم بشاعته حصلغاسبور على فاتنات ما كن في متناول غيره وكأن القبح عندما يتجاوز ضفاف الدمامة, يصبح في فيضه النادر ضرباً من الجمال المثير للغواية.
وكان في الأمر منطق يتجاوزفهمي. قد يشرحه من الطرف الآخر, قول بروست " لندع النساء الجميلات للرجال الذين لاخيال لهم". لذا كان مراد يراهن على خيال الإناث, محطماً خجل العوانس والنساءالرصينات بمباغتهن بممازحته الفاضحة.
في أحد لقاءاتي به لاحقاً, ضربت لهموعدا في الرواق, بعد أن أبدى اهتمامه بزيارة معرض زيان. كنا نتجول بين اللوحاتالتي تتقاسم معظمها فكرة الجسور والأبواب العتيقة المواربة, عندما انضمت إلينافرانسواز التي عرّفته بها قبل ذلك. راحت تسأله بتردد, كيف وجد المعرض. وبعد حديثجدي استعرض فيه سعة ثقافته الفنية أضاف فجأة:
- كجزائري أفهم وجع زيان, وأدريالمأساة التي تحملها لوحاته, لكني كمتلق أجد في هذه الجسور الممدة وهذه الأبوابالمواربة رمزاً أنثوياً. ولو كان لي أن أختار عنواناً لهذا المعرض لسميته " النساء".
وراح أمام عجبنا يشرح فكرته:
- الباب الموارب هو الغشاء الذي تقبعخلفه كل أنوثة مغلولة بقيد الانتظار. ما هو مشروع منه ليس سوى تلك الدعوة الأبديةللولوج, أما بعضه المغلق, فذلك هو التمنع الصارخ للإغواء.. لذا لم أعرف للنساءباباً عصياً على الانفتاح. إنها قضية وقت يتواصى بالصبر.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)