








- الأسود يليق بك.
قالت وهي تهم بإعادته إلى الكيس:
- هو أجمل منأن أرتديه في البيت.. إنه فستان سهرة.
- ونحن في سهرة.. وفي باريس. أين سأراكفيه إن لم يكن هنا؟
بدت مقتنعة.
اقترحت عليها أن تذهب إلى الغرفة المجاورةوترتديه.
تأملت للحظة وجهي المنعكس أمامها في المرآة. ثم بدون أن تقول شيئاً, أخذته ومضت صوب الغرفة التي كان واضحاً أنها تعرف الطريق إليها!
أكنت أريد أنأختبر معرفتها بالبيت.. أم أختبر صبري عليها, وأقاصص نفسي بانتظارها وهي تتعرىلذاكرتها في تلك الغرفة.
كان بإمكاني عن لهفة, أن ألحق بها, أو أن أقترح عنعادةارتداءه أمامي في الصالون. لكنني لم أفعل, إنقاذاً لجمالية اللحظة.
رغم استعجالالجسد وجوعه, كنت أسعد بمتعة تأجيل متعتي, كفاكهة تدري أنها لك, ولكنك تؤجلقضمها.
حاولت أن أستعين على انتظارها بالبحث عن شريط يليق بالمناسبة. كانت تلكالأغنية ما زالت داخل جهاز الكاسيت.
اكتفيت بإعادتها إلى البداية.. والضغط علىالزر.
باسم الله نبدى كلامي.........قسمطينة هي غرامي
نتفكرك فيمنامي......... إنتي والوالدين الله
جلست رفقة قسنطينة أنتظرها, أو هكذاظننت, حتى أطلت كبجعة سوداء.. كأنها في كل ما ترتديه ما ارتدت سوى ملاءتها. وإذابها قسنطينة.
وقفت قبالتي, وكنت أتأمل غرابة فتنتها التي لا منطق لها.
لمتكن الأجمل. قطعاً ما كانت الأجمل, ولكنها كانت الأشهى. كانت الأبهى. وهذا أمر لاتفسير له, كغرابة صوتها الذي يحدث اضطراباً كونياً بكلمة.
سألتني بلهجةقسنطينية, وهي تدور في ذلك الثوب نصف استدارة على إيقاع الموسيقى:
- تشتيه؟
" هل أحبه"؟ يا للسؤال! أجبتها وقد استيقظ فيّ كل ذلك الشوق:
- نشتيكإنتي!
دوماً أحببت الطريقة التي تتحرك بها, طريقتها في الالتفات, في التوقف, فيالانحناء, في انسياب الشال على شعرها, في رفع طرف ثوبها بيد واحدة وكأنها تمسكبتلابيب سرها. طريقتها في الذهاب.. طريقتها في الإياب.
في ذلك الزمن الذيكانت تزورني فيه متنكرة في عباءة أمها, خوفاً من أعين الفضوليين ونوايا الإرهابيينالمتربصين بالنساء, أذكر قولي لها أنني أحبها في تلك العباية السوداء أجابت يومها: " عليك أن تحب الثوب الذي ترتديه ليحبك, وإلا سيبادلك اللامبالاة والنفور, فتبدوفيه قبيحاً. بعض الناس لا يقيمون علاقة حب مع ما يرتدون, ولذا هم يبدون غير جميلينحتى في أناقتهم, والبعض تراهم على بساطة زيهم متألقين, لأنهم يرتدون بذلة يحبونهاولا يملكون سواها".
أتراها أحبت هذا الثوب حتى لتبدو فاتنة فيه إلى هذاالحد؟
أم هي أحبت فتنة هذا الموقف وغرابة لقائنا معاً في بيت يعيدها عشر سنواتإلى متاهتها العاطفية الأولى.
كانت كلمات الأغنية امتداداً لخساراتنا, ممزوجة بحسرات الاشتياق إلى قسنطينة. وكانت الموسيقى بإيقاع دفوفها تبث في الجوذبذبات الخوف من رغبات تولّد مشاعر عنيفة, تبدو معها الرغبة في الرقص عبوراً إلىحزن آخر.
لأن وجودك في " محمية عاطفية" خارج خارطة الخوف العربي يمنحك كلالصلاحيات في اختبار جنونك.. قلت لها::
- حياة.. اشطحي لي.
فاجأها طلبي, وفاجأني حياؤها. ردت بخجل نساء قسنطينة في زمن مضى:
- ما نقدرش.. عمري ما شطحتقدام راجل.
أجبتها بما يضاهي حياء أنوثتها من رجولة:
- أنا مانيش راجل.. أناراجلك.. وهاذا الزين إذا موش ليَّ لِمنُو؟
تراني لفظت كلمة السر التي انتظرهاجسدها طويلاً. فلا أظن أحداً قبلي سألها " لمن جمالك.. إن لم يكن لي أنا"؟
بحشمةقسنطينة عندما ترقص لأول مرة في حضرة رجل, راح جسدها يتهادى. لم تكن تتلوَّى , لمتكن تتمايل, ولا كان في حركتها من غنج. كانت إثارتها في إغرائها الموارب, في تلكالأنوثة التي تحت صخب الموسلين ترقص وكأنها تبكي. على أغنية محملة بذلك الكم منالشجن.
كان في الجو براعم جنون لشهوات مؤجلة أزهرت أخيراً خارج بساتين الخوف, لكن في بيت متورط في حزننا أكثر من أن نفرح فيه.
بدا لي كأنما لاستحالةفرحنا, كنا نمارس الحب رقصاً, بنشوة الحزن المتعالي.
وقبلها لم أكن خبرت الرقصالذي يضرم الحزن. صامتاً كنت, جالساً قبالتها, طرباً لفرط حزني, حزيناً لفرط طربي, منتشياً بها لفرط جوعي إليها. دمائي تصهل تجاهها دوماً, لتنتهي كرماً يعتصر تحت وقعقدميها.
أحببت فصاحة قدميها المخضبتين بدم الرجال. في كل رغبة شيء من العنفالمستتر.
ألهذا خفت كعبها, أم لأنه لا يليق بقسنطينة الرقص بكعب عال؟
قلت: " اخلعي نعلك يا سيدتي.. في الرقص كما في العبادة لا نحتاج إلى حذاء". فقد تنبهت إلىوقوف فينوس منتصبة تواصل انتعال ابتسامتها الأبدية.
أن تكون آلهة لم يعفهامن الذهاب حافية إلى لويس الثامن عشر. فيوم جيء بها إليه, ليستقبلها رسمياً بمايليق بمقام آلهة للجمال, وجد من بين متملقيه من أوصله الاجتهاد إلى المطالبة بأنتتواضع وتأتيه حافية لتؤدي له طقوس الطاعة, كما في الأساطير القديمة.
ولأن قدمهااليسرى كانت مغطاة بقطعة قماش متدلية من وسط جسدها, يقال إن خبراء الترميم في متحفاللوفر قاموا بتبديل قدمها اليمنى بقدم بدون خف.
من يومها تزداد " فينوس" تهكماً. ما استطاعوا أن يجعلوا تمثالها ينحني ولا يديها المبتورتين تصفقان لحاكم أوملك.
وهي تود لو أنها رقصت الآن كأنثى على هذه الموسيقى. غير أن الرقص القسنطينيلا يرقص بفوطة تلف حول ردفين لجسد نصف عار, لهيبة نسائه في حضورهن الخرافي, يكادرقص القسنطينيات يضاهي طقوس العبادة.
إنه يا إلهة الجمال شيء أجمل من أن يتعرى. أروع من أن يوصف.
احزني قليلاً إذن يا سيدتي الحجرية, " نحن لا نستطيع الرقصمع إنسان سعيد" والبسي ثوباً من المخمل المطرز بخيوط الذهب, أثقل من أن ترتديهوحدك, أجمل من ألا يراك فيه أحد. ضعي حول خصرك حزاماً قضت أمك عمراً في جمع صكوكهالذهبية, كي تلبسيه ليلة عرسك. مرري في قدميك المخضبتين بالحناء خلخالاً تسمع رنتهحين تمشين, ولا يرى منه سوى واحد حين تجلسين, وتعالي على هودج الشهوات المتهاديلتتعلمي الرقص القسنطيني.
انحنت حياة تخلع حذاءها, وتواصل الرقص حافيةالشهوات, على إيقاع خلخال أوهامي.
لفرط انخطافي بها, لم أنتبه لحظتها لإمكانإزعاج الجيران. لكن عندما راح الهاتف يرن بعد ذلك بإلحاح في غرفة النوم, توقعت أنيكون أحدهم اتصل احتجاجاً على صوت الموسيقى.
عملاً بتعليمات فرانسواز, فضلت ألاأجيب, مكتفياً بالنظر إلى الساعة.
كانت التاسعة والربع بعد الشجن. أظننا تجاوزناالوقت الحضاري المباح لضجيج السهر.
كان الشريط على مشارف نهايته. توجهت نحوالمسجل أخفِّض صوت الموسيقى.
سألتني وهي تجلس قبالتي على الأريكة:
- ألا تردعلى الهاتف؟
- لا.
قالت بمكر الأنوثة:
- ربما أحد يصر على محادثتك.. الإلحاح الهاتفي صفة أنثوية.
قلت متجاهلاً تلميحها:
- المحب كالمتعبد.. لايقطع صلاته ليرد على الهاتف!
- ولا يقطع عبادته أيضاً لينظر إلى الساعة.. إلاإذا كان مثلاً ينتظر هاتفاً.
ضحكت لمنطق غيرتها. أجبتها وأنا أفك الساعة منمعصمي, وأضعها على طاولة قريبة:
- بل لا هاجس للمتعبد إلا الساعة, لأنه كالعاشقيخاف أن تفاجئه ساعته. هاجس الموت يواجهنا أمام كل حب, لأن الزمن هاجس عشقي, برغمأن العشاق, كما الموتى, لا يحتاجون إلى ساعة لكونهم بدخولهم إلى الحب يخرجون منالزمن المتعارف عليه!
واصلت مازحاً:
- خلعت ساعتي.. أتحداك ألا تنظري بعدالآن إلى ساعتك!
ردت ضاحكة:
- عليك اللعنة.. تهزمني دائماً بدونجهد.
صححتها وأنا أضمها إلي:
- بل بجهد غبائك العاطفي!
رحت أقبلها طويلاً. قبلة تأخرت كثيراً حتى لكأن عليها أن تغطي نفقات عامين من الانتظار. فوحدها اقبلبإمكانها أن تعيد إليك عمراً أفلت منك, برغم حملك أثناءه.. ساعة في معصمك!
شعرتبرغبة في أن أسألها: هل قبَّلها أحد قبلي على هذه الأريكة نفسها؟
غير أنني كنتأعرف الجواب, فاستبدلته بآخر أكثر إلحاحاً. قلت وأنا أعابث شعرها:
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)