فكتب إليه عيسى بن موسى جوابها:
بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بن موسى. سلامٌ عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرةً لله في سمائه، وحولًا على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه. إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهدٌ لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد؛ فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول؛ بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع؛ وكان الحق أولى بالذي أراد أن يصنع أولًا، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء؛ فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصة أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي أسست من ذلك أبخع. فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين. فإن الله جل وعز زائدٌ من شكره، وعدًا منه حقًا لا خلف فيه؛ فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله؛ والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي؛ فإن تعجل بي أمرٌ كنت قد كفيت مؤونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره؛ وإن بقيت بعدك لم تكن أوغرت صدري، وقطعت رحمي؛ ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعملٍ بمثالك.
وذكرت أن الأمور كلها بيد الله؛ هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته؛ فقد صدقت؛ إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه. واعم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعًا، ولا دفعنا عنها ضرًا، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا؛ ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا؛ ولكن الله إذا أراد عزمًا لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده؛ أحكم إبرامه، وأبرم إحكامه، ونور إعلانه، وثبت أركانه؛ حين أسس بنيانه؛ فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر؛ غي أن الشيطان عدوٌ مضل مبين؛ قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا؛ وقد قال الله عز وجل في كتابه: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليمٌ حكيمٌ ". ووصف الذين اتقوا فقال: " إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "؛ فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله؛ فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي همّ به أمير المؤمنين؛ فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه؛ ولا مانع لعطائه؛ ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم؛ فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل؛ فأظهروا الجميل؛ فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرّم أعوانهم، وشرّف بنيانهم؛ فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله.
فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضبًا شديدًا، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون؛ منهم أسد بن المرزبان وعقبة بن سلم ونصر بن حرب بن عبد الله؛ في جماعة؛ فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه؛ فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقرة التي قال الله: " فذبحوها وما كادوا يفعلون "، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور:
يا ابن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي؛ قد أشربوا حب هذا الفتى؛ فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا. فأجاب عيسى إلى أن يفعل.
وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: " اسل عنها تنل منها عوضًا في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة ".
وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بن موسى قولٌ غير هذين القولين؛ وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بن عيسى الكاتب، قال: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الآمر أبا جعفر فيه؛ فبعث إلى خالد بن برمك، فقال له: كلمه يا خالد؛ فقد ترى امتناعه من البيعة للمهدي؛ وما تقدمنا به في أمره؛ فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلى ثلاثين رجلًا من كبار الشيعة ممن تختاره قال: فركب خالد بن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور؛ فقال: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي؛ فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه؛ فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه؛ قال: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه إن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد.
قال: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك إلى الآفاق؛ قال: وأتى عيسى بن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكرًا لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به. فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب؛ وليس له أن يرجع؛ فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه؛ وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه.
وذكر عن علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: إني لأسير مع سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه؛ وكل واحد منهما يحمل شيئًا من متاع، فوقف عليهم سليمان بن عبد الله، فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟ قال: كنت نازلًا على القعقاع - وهو رجل من آل زراره، وكان يتولى لعيسى بن موسى الشرطة - فقال لي: أخرج عني؛ فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعرًا في هذه البيعة للمهدي، فأخاف إن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت. قال: فقال لي: يا عبد الله؛ انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعًا صالحًا، واستوص به وبمن معه خيرًا. ثم خبر سليمان بن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه:
عيسى فزحلفها إلى محمد ** حتى تؤدى من يد إلى يد
فيكم وتغنى وهي في تزيد ** فقد رضينا بالغلام الأمرد
قال: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه ذكر عن حيان بن عبد الله بن حبران الحماني، قال: حدثني أبو نخيلة قال: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرًا لا أصل إليه، حتى قال لي ذات يومٍ عبد الله بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافة والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بن موسى، فلو قلت شيئًا تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي كنت بالحري أن تصيب منه خيرًا ومن ابنه، فقلت:
دونك عبد الله أهلك ذاكا ** خلافة الله التي أعطاكا
أصفاك أصفاك بها أصفاكا ** فقد نظرنا زمنًا أبكاكا
ثم نظرناك لها إياكا ** ونحن فيهم والهوى هواكا
نعم، فنستذري إلى ذراكا ** أسند إلى محمد عصاكا
فابنك ما استرعيته كفاكا ** فأحفظ الناس لها أدناكا
فقد جفلت الرجل والأوراكا ** وحكت حتى لم أجد محاكا
ودرت في هذا وذا وذاكا ** وكل قول قلت في سواكا
زور وقد كفر هذا ذاكا
وقلت أيضًا كلمتي التي أقول فيها:
إلى أمير المؤمنين فاعمدي ** سيري إلى بحر البحور المزبد
أنت الذي يا بن سمي أحمد ** ويا بن بيت العرب المشيد
بل يا أمين الواحد المؤبد ** إن الذي ولاك رب المسجد
أمسي ولي ععهدها بالأسعد ** عيسى فزحلفها إلى محمد
من قبل عيسى معهدًا عن معهد ** حتى تؤدي من يد إلى يد
فيكم وتغنى وهي في تزيد ** فقد رضينا بالغلام الأمرد
بل قد فرغنا غير أن لم نشهد ** وغير أن العقد لم يؤكد
فلو سمعنا قولك امدد امدد ** كانت لنا كدعقة الورد الصدي
فبادر البيعة ورد الحشد ** تبين من يومك هذا أو غد
فهو الذي تم فمامن عند ** وزاد ما شئت فده يزدد
ورده منك رداءً يرتد ** فهو رداء السابق المقلد
قد كان يروى أنها كأن قد ** عادت ولو قد فعلت لم تردد
فهي ترامي فدفدًا عن فدفد ** حينًا، فلو قد حان ورد الورد
وحان تحويل الغوى المفسد ** قال لها الله هلم وارشدي
فأصبحت نازلةً بالمعهد ** والمحتد المحتد خير المحتد
لم يرم تذمار النفوس الحسد ** بمثل قرم ثابت مؤيد
لما انتحوا قدحًا بزند مصلد ** بلوا بمشزور القوي المستحصد
يزداد إيقاظًا على التهدد ** فداولوا باللين والتعبد
صمصامةً تأكل كل مبرد.
قال: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه؛ وإن عيى بن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت: يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريبًا منه، فلما صرت بين يديه قلت - ورفعت صوتي - أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول الأرجوزة؛ فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضًا، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعًا له؛ فلما خرجنا من عنده إذا رجلٌ واضعٌ يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين؛ فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيرًا وإن يك غير ذلك، فابتغ نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء. قال: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه. وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري؛ وقد أخذ الجائزة. وذكر عن الوليد بن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بن قتيبة قال له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر؛ قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين. قال: أوترى ذلك! قال: نعم، قال: فإني أفعل؛ فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده. وبايع الناس للمهدي ولعيسى بن موسى من بعده. وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له. وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قال: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال له رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره؛ ما كان خلعه إياها منه إلا برضًا من عيسى وركونٍ منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلبًا للخروج منها؛ أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه؛ وإني لفي مقصورة مدينة السلام؛ إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى. فقال: إني قد سلمت ولاية العهد لمحمد ابن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير؛ ولكن قل ذلك بحقه وصدقه؛ وأخبر بما رغبت فيه؛ فأعطيت، قال: نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاث مائة ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان - سماهم - وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه - سماها - بطيب نفسٍ مني وحب، لتصيرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها؛ وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير؛ فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة. قال: والله وهو في ذلك؛ ربما نسى الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله؛ حتى فرغ، حبًا للاستيثاق منه. وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر؛ حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعًا؛ ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر. قال: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم.