









قال: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قال: وقال يحيى للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين؛ إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم؛ وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال: صدقت ونصحت؛ ولي في هذا تدبير.
قال الكرماني: وحدثني خزيمة بن عبد الله، أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيت إن كان الأمر - أسأل الله ألا نبلغه، وأن يقدمنا قبله - أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر؛ وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى - قال: وكان يقول: ما كلمت أحدًا من الخلفاء كان أعقل من موسى - قال: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغي أن تعقده له، فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله؛ فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده. قال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه. وذكر الموصلي عن محمد بن يحيى، قال: عزم الهادي بعد كلام أبي له على خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده؛ وأجابه إلى الخلع أو لم يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه. وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن فيها، فأذن له؛ فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يومًا حتى أنكر الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده ألسنتهم فيه؛ والفضل بن يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب إليه بذلك، وانصرف وطال الأمر.
قال الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بن خالد، قال: بعثت الخيزران عاتكة - ظئرًا كان لهارون - إلى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها. قال: فصاح بها وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم. قال: ولما لم ير الهادي يحيى بن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له من إكرام وإقطاع وصلة، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه. قال: فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد ببغداد؛ لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في داره يلقاه في ليله ونهاره.
وذكر محمد بن القاسم بن الربيع، قال: أخبرني محمد بن عمرو الرومي، قال: حدثني أبي، قال: جلس موسى الهادي بعد ما ملك في أول خلافته جلوسًا خاصًا، ودعا بإبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة الحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم خادم أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان؛ وكان يثق به ويقدمه؛ فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يده، وجلس عن يمينه بعيدًا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت من بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا موسى؛ إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت؛ وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي؛ فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي. قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر؛ ادن مني، فدنا منه، فقبل يده، ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل - أعني أباك المنصور - لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار؛ وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة؛ فيأخذ جميع ما أراد. قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: أدن دابته إلى البساط. قال عمر الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال الهادي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبًا وإلى هارون قضيبًا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلًا؛ فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره. فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري - وكان يكنى أبا سفيان - فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعًا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة؛ وتكون أيامه أحسن أيام. قال: ولم يلبث إلا أيامًا يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.
قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى؛ ووفى بكل ما قال؛ وكان دهره أحسن الدهور.
وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة؛ حديثة الموصل؛ فمرض بها، واشتد مرضه، فانصرف. فذكر عمرو اليشكري - وكان في الخدم - قال: انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقًا وغربًا بالقدوم عليه؛ فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه. ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا. ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي؛ وكانت المستولية على أمر الرشيد وتدبير الخلافة إلى أن هلك؛ فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل بن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتبًا إلى الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون؛ فلما مات الهادي أنفذوها على البرد.
وذكر الفضل بن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة، وأتاها الرسول فأخبرها بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها الحرة؛ فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب. فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة؛ قال: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون.
قال الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عبيد الله، فساقه لي مثل ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قال: إنها كانت قد سمعت من الأوزاعي.
ذكر يحيى بن الحسن أن محمد بن سليمان بن علي حدثه، قال: حدثتني عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران الخبر، ونحن أربع نسوة؛ أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان، ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا سيدتي، مات موسى ودفنوه؛ قالت: إن كان موت موسى، فقد بقي هارون، هات لي سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لسادتي أربع مائة ألف دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا ببغداد. قالت هاتوا الرحائل، فما جلوسي ها هنا؛ وقد مضى! فلحقته ببغداد.
ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه
قال أبو معشر: توفي موسى الهادي ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول؛ حدثنا بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق. وقال الواقدي: مات موسى بعيساباذ للنصف من شهر ربيع الأول. وقال هشام بن محمد: هلك موسى الهادي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ليلة الجمعة في سنة سبعين ومائة. وقال بعضهم: توفي ليلة الجمعة لستة عشر يومًا منه؛ وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر. وقال هشام: ملك أربعة عشر شهرًا، وتوفي وهو ابن ست وعشرين سنة. وقال الواقدي: كانت ولايته سنة وشهرًا واثنين وعشرين يومًا. وقال غيرهم: توفي يوم السبت، لعشر خلت من ربيع الأول - أو ليلة الجمعة - وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت خلافته سنة وشهرًا وثلاثة وعشرين يومًا، وصلى عليه أخوه هارون بن محمد الرشيد. وكان كنيتة أبو محمد، وأمه الخيرزان أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه.
وذكر الفضل بن إسحاق أنه كان طويلًا جسيمًا جميلًا أبيض، مشبًا حمرة؛ وكان بشفته العليا تقلص، وكان يلقب موسى أطبقن وكان قد ولد بالسيروان من الري.
ذكر أولاده
وكان له من الأولاد تسعة؛ سبعة ذكور وابنتان، أما الذكور فأحدهم جعفر - وهو الذي يرشحه للخلافة - والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم من أمهات أولاد. وكان الأعمى - وهو موسى - ولد بعد موت أبيه. والابنتان؛ إحداهما أم عيسى كانت عند المأمون، والأخرى أم العباس بنت موسى، تلقب نوتة.
ذكر بعض أخباره وسيره
ذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي الندي أبو طوطة، قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: كنت مع موسى بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، وركب البريد إلى بغداد؛ ومعه سعيد بن سلم، ووجهي إلى خراسان؛ فحدثني سعيد بن سلم، قال: سرنا بين أبات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتًا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قال: فقلت يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في منتزه له ومعه حرمه؛ فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: علي بصاحب الصوت؛ فأتى به؛ فلما مثل بين يديه، قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه! يا غلام جبه، فجب الرجل. فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المنتزه، فجلس مجلس الذي فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضره، فلما مثل بين يديه، قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال له: يا سليمان؛ الله الله! إنك قطعت نسلي، فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله. قال: فقال يا موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده فقال: لا تعرض للرجل.
وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى المهدي؛ أن على ابن صالح حدثه؛ أنه كان يومًا على رأس الهادي وهو غلام - وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام - فدخل عليه الحراني، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام؛ فالتفت إلي، وقال: يا علي، ائذن للناس، علي بالجفلي لا بالنقري، فخرجت من عنده أطير على وجهي. ثم وقفت فلم أدري ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين، فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي! ثم أدركني ذهني؛ قبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجفلى النقري، فقال: الجفلى جفالة، والنقري ينقر خواصتهم. فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم؛ فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل؛ فلما تقوض المجلس مثلت بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئًا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك، فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا، ففسر لي الكلام؛ فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم مائة ألف درهم تحمل إليه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف، وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي! أجود وتبخل! قال: وحدثني علي بن صالح، قال: ركب الهادي يومًا يريد عيادة أمه الخيزران من علة كانت وجدتها، فاعرضه عمر بن بزيغ، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: وما هو يا عمر؟ قال: الظالم لم تنظر فيها منذ ثلاث، قال: فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها أن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله.
وذكر عن عبد الله بن مالك، أنه قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضرهم؛ وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم؛ ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي. قال: فلما ولى الهادي الخلافة أيقنت بالتلف؛ فبعث إلي يومًا، فدخلت عليه متكفنًا متحنطًا؛ وإذا هو على كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يومًا بعثت إليك في أمر الحراني، وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني؛ وفي فلان وفلان - وعل يعدد ندماءه - فلم تلتفت إلى قولي، ولا أمري! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر، فبعث إلي بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني، فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدًا فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرًا في أمري وأمره، وقلت:
حدث يشرب، والقوم الذي عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه؛ فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في، وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوفه. قال: فإني لجالس وبين يديه بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسنخه وأضعه للصبية؛ وإذا ضجة عظيمة، حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت؛ فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم؛ فلما رأيته وثبت عن مجلس مبادرًا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك إني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، وافعل فيه ما كنت تفعل؛ لتعلم أني قد تحرمت والسكرجة التي فيها الكامخ، فأكل منها ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي. فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال؛ لعلي أحتاج إليها يومًا لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعًا.
فذكر موسى بن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره، ثم بنى حوله معالف لتلك البغال؛ وكان هو يتولى النظر إليها والقيام عليها أيام حياة الهادي كلها.
وذكر محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود بن طهمان السلمي. قال: أخبرنيأبي، قال: كان علي بن عيسى بن ماهان يغضب غضب الخليفة، ويرضى رضا الخليفة؛ وكان أبي يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى؛ فإنه دخل إلى الحبس وفي يده سوط، فقال: أمرني أمير المؤمنين موسى الهادي أن أضربك مائة سوط، قال: فأقبل يضعه على يدي ومنكبي؛ يمسني به مسًا إلى أن عد مائة، وخرج. فقال له: ما صنعت بالرجل؟ قال: صنعت به ما أمرت. قال: فما حاله؟ قال: مات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ويلك! فضحتني والله عند الناس؛ هذا رجل صالح، يقول الناس: قتل يعقوب بن داود! قال: فلما رأى شدة جزعه، قال: هو حي يا أمير المؤمنين لم يمت، الحمد لله على ذلك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)