وذكر بعضهم أن عبد الله بن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة.
وذكر محمد بن إسحاق أن جعفر بن محمد بن حكيم الكوفي، حدثه قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: إني لجالس يومًا، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتابًا صغيرًا، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ": يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعدًا فقم، وإن كنت قائمًا فلا تقعد حتى تصير إلي. قال السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت. وكان الرشيد بالعمر؛ فحدثني العباس بن الفضل بن الربيع، قال: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبهه أن يكون هو! قال: فطلعت. قال السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قال للعباس: اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيما أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قال: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قال: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج - خلا باب محمد بن خالد - حتى يأتيك أمري. قال: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت. قال السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به. قال: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة بن أعين، ومعه جعفر بن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين؛ وأن أصلبه على ثلاثة جسور. قال: ففعلت ما أمرني به.
قال محمد بن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوبًا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بن خازم، دعا بالوليد بن جثم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بن الجنيد الختلي - وكان سيافه - فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال: ينبغي أن يحرق هذا - يعني جعفرًا - فلما مضى، جمع السندي له شوكًا وحطبًا وقال محمد بن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى، قيل ليحيى بن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفرًا، قال: كذلك يقتل ابنه، قال: فقيل له: خربت ديارك، قال: كذلك تخرب دورهم.
وذكر الكرماني أن بشارًا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرًا في آخره؛ فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر بن يحيى معه، قد خلا به دون ولاة العهد؛ وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه؛ وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه؛ ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني علي الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضًا واطرب؛ لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت؛ فانصرف عنه إلى منزله؛ فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعة تأتيه بالأنفال والأبخرة والرياحين؛ حتى ذهب الليل. ثم بعث إليه مسرورًا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلامًا الأبرش بباب يحيى بن خالد، ولم يعترض لمحمد بن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه.
قال: فحدثني العباس بن بزيع عن سلام، قال: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت - وقد هتكت الستور وجمع المتاع - قال لي: يا أبا مسلمة؛ هكذا تقوم الساعة! قال سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه؛ فأطرق مفكرًا.
قال وحدثني أيوب بن هارون بن سليمان بن علي، قال: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى أبي صالح بن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم. قال: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد. وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد.
قال: قتل جعفر بن يحيى ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة - وفي ذلك يقول الرشاقي:
أيا سبت يا شر السبوت صبحيةً ** ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما
أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا ** وفي صفرٍ جاء البلاء مصمما
قال: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفرًا سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم أقتله.
ما قيل في البرامكة من الشعر بعد زوال أمرهم

قال: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس:
ألان استرحنا واستراحت ركابنا ** وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السري ** وطي الفيافي فدفدًا بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفرٍ ** ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطلي ** وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفًا برمكيًا مهندًا ** أصيب بسيفٍ هاشمي مهند
وفيهم يقول في شعر له طويل:
إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد ** غدر الزمان بجعفرٍ ومحمد
حتى إذا وضح النهار تكشفت ** عن قتل أكرم هالك لم يلحد
والبيض لولا أنها مأمورة ** ما فل حد مهند بمهند
يا آل برمك كم لكم من نائل ** وندى، كعد الرمل غير مصرد
إن الخليفة لايشك أخوكملكنه في برمكٍ لم يولد
نازعتموه رضاع أكرم حرةٍ ** مخلوقة من جوهرٍ وزبرجد
ملك له كانت يد فياضة ** أبدًا تجود بطارفٍ وبمتلد
كانت يدًا للجود حتى غلها ** قدر فأضحى الجود مغلول اليد
وفيهم يقول سيف بن إبراهيم:
هوت أنجم لجدوى وشلت يد الندى ** وغاضت بحور الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبناء برمكٍ ** بها يعرف الحادي طريق المسالك
وقال بن أبي كريمة:
كل معير أعير مرتبةً ** بعد فتى برمكٍ على غرر
صالت عليه من الزمان يد ** كان بها صائلًا على البشر
وقال العطوي أبو عبد الرحمن:
أما والله لولا قول واشٍ ** وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ** كما للناس بالحجر استلام
على الدنيا وساكنها جميعًا ** ودولة آل برمكٍ السلام
وفي قتل جعفر قال أبو العتاهية:
قولا لمن يرتجي الحياة أما ** في جعفرٍ عبرة ويحياه!
كانا وزيري خليفة الله ها ** رون هما ما هما خليلاه
فذاكم جعفر برمته ** في حلق رأسه ونصفاه
والشيخ يحيى الوزير أصبح قد ** نحاه عن نفسه وأقصاه
شتت بعد التجميع شملهم ** فأصبحوا في البلاد قد تاهوا
كذاك من يسخط الإله بما ** يرضي به العبد قد تاهوا
سبحان من دانت الملوك له ** أشهد أن لا إله إلا هو
طوبى لمن تاب بعد غرته ** فتاب قبل الممات، طوباه!
قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.
وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة الليل.
وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.
وفيها مات يعقوب بن داود بالرقة.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قربانًا له ووسيلة، وولاه العواصم.
ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح

وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه