









خبر مقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك
وفيها قتل - في قول الوافدي - إبراهيم بن عثمان بن ناهيك. وأما غير الواقدي؛ فإنه قال: في سنة ثمان وثمانين ومائة.
ذكر الخبر عن سبب مقتله
ذكر عن صالح الأعمى - وكان في ناحية إبراهيم بن عثمان بن نهيك - قال: كان إبراهيم بن عثمان كثيرًا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعًا عليهم، وحبًا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قال: يا غلام، سيفي ذا المنية - وكان قد سمى سيفه ذا المنية - فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لأقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل فقال: ما الذي قال الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قال: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرًا فسأله، فقال: لقد قال ذلك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليًا من أوليائي بقول غلام وخصي، لعلهما تواصيا على هذه المنافسة؛ الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أيامًا، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه؛ فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك؛ إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلني وإياه، ففعل ذلك الفضل بن الربيع؛ وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بن الربيع للقيام، فقال الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فينحوا عنه، ثم قال: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قال: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك؛ قال: إن في نفسي أمرًا أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قال: يا سيدي إذًا لا يرجع عني إليك أبدًا، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه. قال: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامةً ما أحسن أن أصفها؛ فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي؛ فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قال: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يابن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، فقالت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قال: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنة والله؛ ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها. فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه - فضربه بسيفه حتى مات - إلا ليال قلائل.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة
فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فوردعليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم. وقتل من الروم - فيما ذكر - أربعون ألفًا وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.
وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف العطاء؛ وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر شخوص الرشيد إلى الري
فمن ذلك ما كان من شخوص الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري.
ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره
ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بن خالد في تولية خراسان علي بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالًا جليلًا، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثيلب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبهيحيى بن خالد، فقال له: يا أبا علي؛ هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة - وهو كالمازح معه إذ ذاك - فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي؛ وما أحسن هذا وأكثره وإن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء علقبته ونتائج مكروهه، قال: وما ذاك؟ فأعلمه، قال: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلمًا وتعديًا؛ ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قال: وكيف ذاك؟ قال: قد ساومنا عونًا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، وأعطيناه به سبعة آلاف ألف، فأبى أن يبيعه، فأبعث إليه الساعة بحاجتي فآمره أن يرده إلينا؛ لنعيد فيه نظرنا؛ فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك. وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرًا من فعل علي بن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية؛ مما جمع علي في ثلاث سنين.
فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك على ذكر علي بن عيسى عنده، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده. فدعا يحيى بن خالد، فشاوره في أمر علي بن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق. فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته.
وكان قيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير. وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله؛ إذا أفضت الخلافة إليه. ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحوًا من أربعة أشهر؛ حتى قدم عليه علي بن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه. فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهومشيع له؛ فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بن هلنئ في ذلك:
تبارك من ساس الأمور بعلمه ** وفضل هارونًا على الخلفاء
نزال بخير ما انطوينا على التقى ** وما ساس دنيانا أبو الأمناء
وفي هذه السنة - حين صار الرشيد إلى الري - بعث حسينًا الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب؛ من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لونداهرمز، جد مازيار، والثالث فيه أمان لمرزيان بن جستان، صاحب الديلم. فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده. وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم ونداهرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك؛ فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة. وقدم عليه الري أيضًا خزيمة بن خازم، وكان والي إرمينية، فأهدى هدايا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بن مالك طبرستان والري والرويان ودنباوند وقومس وهمذان. وقال أبو اللعتاهية في خرجة هارون هذه - وكان هارون ولد بالري:
إن أمين الله في خلقه ** حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ** ويمطر الخير بها من يده
وولى هارون في طريقه محمد بن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بن جعفر بن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصنًا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص؛ فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين نقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجهًا إلى الرقة، فنزل السيلحين.
وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قال لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينةً ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها؛ وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها؛ وما رأى أحد من آبائي سوءًا ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة - بني أمية - مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل؛ ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدًا.
وقال العباس ن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نف ** رق بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ** فقرنا وداعهم بالسؤال
وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم مسلم إلا فودي به - فيما ذكر - فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لهل ** محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها ** وقالوا: سجون المشركين قبورها
ورابط فيها القاسم بدابق.
وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى بن موسى.
ثم دخلت سنة تسعون ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث
فمن ذلكما كان من ظهور خلاف رافع بن ليث بن نصر بن سيار بسمرقند، مخالفًا لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته.
ذكر الخبر عن سبب ذلك
وكان سبب ذلك - فيما ذكر لنا - أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سببًا للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعًا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها؛ إلا أن تشرك بالله، وتحضر لذلك قومًا عدولًا، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحل للأزواج؛ ففعلت ذلك وتزوجها رافع. وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعًا ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيدًا على حمار؛ حتى يكون عظة لغيره. فدرأ سليمان بن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله على حمار مقيدًا حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند - فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنه عيسى بن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها، فوثب بسليمان بن حميد؛ عامل علي بن عيسى فقتله. فوجه علي بن عيسى إليه ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعًا وبايعوه، وطابقه من وراء النهر، ووافاه عيسى بن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بن عيسى في فرض الرجال والتأهب للحرب.
وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به؛ وهو خاتم الخاصة، نقشه: " الله ثقتي آمنت به ".
وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما كان في أيديهم.
فتح الرشيد هرقلة
وفيها فتح الرشيد هرقلة، وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم؛ وكان دخلها - فيما قيل - في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق؛ سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائحًا في أرض الروم في سبعين ألفًا، وافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودبسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقوبية - وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال - وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يومًا عليها، وولى حميد بن معيوف سواحل بحر الشأم إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفًا، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفي دينار.
وكان شخوص هارون إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب؛ واتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها " غاز حاج "، فكان يلبسها، فقال أبو المعالي الكلابي:
فمن يطلب لقاءه أو يرده ** فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر ** وفي أرض الترفه فوق كور
وما حاز الثغور سواك خلق ** من المتخلفين على الأمور
ثم صار الرشيد إلى الطوانة، فعسكر بها، ثم رحل عنها، وخلف عليها عقبة بن جعفر، وأمره ببناء منزل هنالك، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية، عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار؛ منها عن رأسه أربعة دنانير؛ وعن رأس ابنه استبراق دينارين. وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جاريه من سبي هرقلة كتابًا نسخته: لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم. سلام عليكم، أما بعد أيها الملك، فإن لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة يسيرة؛ أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفي بحاجتي فعلت. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
واستهداه أيضًا طيبًا وسرادقًا من سرلدقته فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلًا فيه، وسلمت الجاريه والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والأ خبصة والزبيب والترياق، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر دارهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغهخمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازيًا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين. وكان نفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صمله ولا حصن سنان، واشترط عليه ألا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلثمائة ألف دينار. وخرج في هذه السنة خارجي من عبد القيس يقال له سيف بن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد بن مز، فقتله بعين النورة. ونقض أهل قبس العهد، فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها.
وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا؛ فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه، وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحًا. وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام.
وفيها وقع الثلج بمدينة السلام.
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.
وفيها غلظ أمر رافع بن ليث بسمرقند.
وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي، فوجه صاحب الشاش في إتراكه قائدًا من قواده، فأتوا عيسى بن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه.
وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان.
وفيها غزا يزيد ن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرطوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون.
وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفًا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم؛ إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة. ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بن مالك، ورتب سعيد بن سلم بن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم بها، وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة.
وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.
وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة.
ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بن عيسى وسخطه عليه
قال أبو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابن علي بن عيسى وكيف قتل. ولما ابنه عيسى خرج علي عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بن الليث، فيستولي عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالًا عظيمة - قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف - ولم يعلم بها علي بن عيسى ولا اطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج علي عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال؛ وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك، وولى هرثمة بن أعين، واستصفى أموال علي بن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف.
وذكر عن بعض الموالي أنه قال: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد خراسان، فوردت خزائن علي بن عيسى التي أخذت له على ألف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)