الباب الثالث عشر في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم=

قال الله تعالى إخبارا عن عدوه إبليس لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم واحتجاجه بأنه خير منه وإخراجه من الجنة أنه سأله أن ينظره فأنظره ثم قال عدو الله: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف: 17 ]
قال جمهور المفسرين والنحاة: حذف على فانتصب الفعل والتقدير: لأقعدن لهم على صراطك والظاهر: أن الفعل مضمر فإن القاعد على الشيء ملازم له فكأنه قال: لألزمنه ولأرصدنه ولأعوجنه ونحو ذلك
قال ابن عباس: دينك الواضح وقال ابن مسعود: هو كتاب الله وقال جابر: هو الإسلام وقال مجاهد: هو الحق
والجميع عبارات عن معنى واحد وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى وقد تقدم حديث سبرة بن الفاكه: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها الحديث فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه يقطعه على السالك
وقوله: ثم لآتينهم من بين أيديهم [ الأعراف: 17 ] قال ابن عباس في رواية عطية عنه: من قبل الدنيا وفي رواية علي عنه أشككهم في آخرتهم
وكذلك قال الحسن: من قبل الآخرة تكذيبا بالبعث والجنة والنار
وقال مجاهد: من بين أيديهم: من حيث يبصرون
ومن خلفهم قال ابن عباس أرغبهم في دنياهم وقال الحسن: من قبل دنياهم أزينها لهم وأشهيها لهم
وعن ابن عباس رواية أخرى: من قبل الآخرة
وقال أبو صالح أشككهم في الآخرة وأباعدها عليهم وقال مجاهد أيضا: من حيث لا يبصرون
وعن أيمانهم قال ابن عباس: أشبه عليهم أمر دينهم وقال أبو صالح الحق أشككهم فيه وعن ابن عباس أيضا: من قبل حسناتهم
قال الحسن من قبل الحسنات أثبطهم عنها
وقال أبو صالح أيضا: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أنفقه عليهم وأرغبهم فيه
وقال الحسن: وعن شمائلهم السيئات يأمرهم بها ويحثهم عليها ويزينها في أعينهم
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم قال الشعبي: فالله تعالى أنزل الرحمة عليهم من فوقهم
وقال قتادة: أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله
قال الواحدي: وقول من قال: الأيمان كناية عن الحسنات والشمائل كناية عن السيئات حسن لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك تريد: اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين وأنشد لابن الدمينة:
ألبنى أفي يمني يديك جعلتني... فأفرح أم صيرتني في شمالك
وروى أبو عبيد عن الأصمعي: هو عندنا باليمين: أي بمنزلة حسنة وبضد ذلك: هو عندنا بالشمال وأنشد:
رأيت بني العلات لما تظافروا... يحوزون سهمي بينهم في الشمائل
أي ينزلوني بالمنزلة السيئة
وحكى الأزهري عن بعضهم في هذه الآية لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة ومن خلفهم بأمر البعث وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أي لأضلنهم فيما يعملون لأن الكسب يقال فيه: ذلك بما كسبت يداك وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئا لأنهما الأصل في التصرف فجعلتا مثلا لجميع ما يعمل بغيرهما
وقال آخرون منهم أبو إسحاق والزمخشري واللفظ لأبي إسحاق ذكر هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد أي: لآتينهم من جميع الجهات والحقيقة والله أعلم أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم
وقال الزمخشري: ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه كقوله: واستفزز من استطعت منهم بسوطك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [ الاسراء: 64 ]
وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك وهذا القول أعم فائدة ولا يناقض ما قال السلف فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين
قال شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ طه: 82 ] وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على من أخلفه فاقرأ: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود: 6 ] ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء فاقرأ: والعاقبة للمتقين [ الأعراف: 128 ] ومن قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ: وحيل بينهم وبين ما يشتهون [ سبأ: 24 ]
قلت: السبل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه وتارة على شماله وتارة أمامه وتارة يرجع خلفه فأي سبيل سلكلها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له فإن سلكها في طاعة وجده عليها يثبعطه عنها ويقطعه أو يعوقه ويبطئه وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك
ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالى: وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ فصلت: 25 ]
قال الكلبي: ألزمناهم قرناء من الشياطين وقال مقاتل هيأنا لهم قرناء من الشياطين
وقال ابن عباس: ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة
والمعنى زينوا لهم الدنيا حتى آثروها ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها
وقال الكلبي: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة: أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وما خلفهم من أمر الدنيا: ما هم عليه من الضلالة وهذا اختيار الفراء
وقال ابن زيد: زينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم وما يستقبلون منها والمعنى على هذا زينوا لهم ما عملوه فلم يتوبوا منه وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه
فنقول عدو الله تعالى: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم [ الأعراف: 17 ] يتناول الدنيا والآخرة وقوله: وعن أيمانهم وعن شمائلهم [ الأعراف: 17 ] فإن ملك الحسنات عن اليمين يستحث صاحبه على فعل الخير فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يثبطه عنه وإن ملك الشيئات عن الشمال ينهاه عنها فيأتيه الشيطان من تلك الجهة يحرضه عليها وهذا يفصل ما أجمله في قوله: فبعزتك لأغوينهم أجمعين [ ص: 82 ] وقال تعالى: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأنخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنعيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ النساء: 118 ] قال الضحاك: مفروضا أي معلوما وقال الزجاج: أي نصيبا افترضته على نفسي قال الفراء: يعني ما جعل له عليه السبيل من الناس فهو كالمفروض قلت: حقيقة الفرض هو التقدير والمعنى: أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظعه المقسوم فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه وأولياء الله وحزبه وخاصته
وقوله: ولأضلنهم يعني عن الحق ولأمنينهم قال ابن عباس: يريد تعويق التوبة وتأخيرها
وقال الكلبي: أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث
وقال الزجاج: أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة
وقيل: لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع
قيل: أمنيهم طول البقاء في نعيم الدنيا فأطيل لهم الأمل ليؤثروها على الآخرة
وقوله: ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام البتك القطع وهو في هذا الموضع: قطع آذان البحيرة عن جميع المفسرين ومن ههنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذني الطفل للحلق ورخص بعضهم في ذلك للأنثى دون الذكر لحاجتها إلى الحلية واحتجوا بحديث أمع زرع وفيه أناس من حلي أذنى وقال النبي كنت لك كأبي زرع لأمع زرع ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك في حق البنت وكراهته في حق الصبي
وقوله: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله قال ابن عباس: يريد دين الله وهو قول إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك وقتاة والسدى وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومعنى ذلك: هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة وهي ملة الإسلام كما قال تعالى: فأقم وجهك للدعين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه [ الروم: 30 ] ولهذا قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء فهل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ثم قرأ أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية [ الروم: 30 ] متفق عليه
فجمع بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير وتغيير الخلقة بالجدع وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها وغير الصورة بالجدع والبتك فغير الفطرة إلى الشرك والخلقة إلى البتك والقطع فهذا تغيير خلقة الروح وهذا تغيير خلقة الصورة