فأجابهم الآخرون: بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان تارة وأكثر ما تستعمل في الأفعال وأما الأعيان فكقوله في الحديث: انشق القمر على عهد رسول الله مرتين أي شقتين وفلقتين ولما خفي هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله مرتين المرة الزمانية
اذا عرف هذا فقوله نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب: 31 ] وقوله يؤتون أجرهم مرتين [ القصص: 54 ] أي ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفا وهذا يمكن اجتماع المرتين منه في زمان واحد وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما في زمن واحد فإنهما مثلان واجتماع المثلين محال وهو نظير اجتماع حرفين في آن واحد من متكلم واحد وهذا مستحيل قطعا فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق في إيقاع واحد
ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤدي للواجب عليه وإنما يحتسب له رمي حصاة واحدة فهي رمية لا سبع رميات
واتفقوا كلهم على أنه لو قال في اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق كانت شهادة واحدة وفي الحديث الصحيح: من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة هذا اللفظ لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة
وكذلك قوله تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون ثلاثا وثلاثين وتكبرون أربعا وثلاثين لو قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين لم يكن مسبحا هذا العدد حتى يأتي به واحدة بعد واحدة
ونظائر ذلك في الكتاب والسنة اكثر من أن تذكر
قالوا: فقوله تعالى الطلاق مرتان إما أن يكون خبرا في معنى الأمر أي إذا طلقتم فطلقوا مرتين وإما أن يكون خبرا عن حكمه الشرعي الديني أي الطلاق الذي شرعته لكم وشرعت فيه الرجعة مرتان
وعلى التقديرين إنما يكون ذلك مرة بعد مرة فلا يكون موقعا للطلاق الذي شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة ولا يكون موقعا للمشروع بقوله أنت طالق ثلاثا ولا مرتين
قالوا ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع في مرتين فلو شرع جمع الطلاق في دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحا ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة تجمعه وهذا خلاف ظاهر القرآن وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك
قالوا ويدل عليه أن الطلاق اسم محلي باللام وليست للعهد بل للعموم فالمراد بالآية كل الطلاق مرتان والمرة الثالثة التي تحرمها عليه وتسقط رجعته وهذا صريح في أن الطلاق المشروع هو المتفرق لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2: 229 فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها فإنه لا يبقى بعدها إمساك
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2: 230 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وإذا من أدوات العموم كأنه قال أي طلاق وقع منكم في أي وقت فحكمه هذا إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقي ما عداها داخلا في لفظ الآية نصا أو ظاهرا
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 2: 231 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فهذا عام في كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين فالقرآن يقتضي أن ترجع إلى زوجها إذا أراد في كل طلاق ما عدا الثالثة
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 65: 1 يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ووجه الاستدلال بالآية من وجوه
أحدها أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها أي لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة ولهذا أمر رسول الله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها وتلا هذه الآية تفسير للمراد بها وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة
ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة
وقال في رواية أخرى عنه له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني ويطلقها الثالثة في الطهر وهو قول أبي حنيفة فيكون مطلقا للعدة أيضا لأنها تبتني على ما مضى والصحيح هو الأول وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة والعقد لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة
ومن جعله مشروعا قال هو الطلاق لتمام العدة والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة
وأصحاب القول الأول يقولون المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن في قبل عدتهن
قالوا فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية
قال مجاهد كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس
وإن الله تعالى قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا فما أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وإن الله تعالى قال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا حديث صحيح
ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم وهذا فهم من دعا له النبي أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وهو من أحسن الفهوم كما تقرر
الوجه الثاني من الاستدلال بالآية قوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وهذا إنما هو الطلاق الرجعي فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله ولهذا قال الجمهور إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض
وأبو حنيفة قال لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها
والجمهور يقولون ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن
الوجه الثالث أنه قال 65: 1 وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما
الوجه الرابع أنه سبحانه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر ههنا هو الرجعة قالوا وأي أمر يحدث بعد الثلاث
الوجه الخامس قوله تعالى 2: 230 فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن يسبق بطلقتين قبله وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن كما تقدم وهذا حق فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى
قالوا والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبته وقد وقت للعدة أجلا لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها لأنه وقت نفرته عنها وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد في إمساكها لقضاء وطره فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما في الطلاق في الحيض من تطويل العدة وعقيب الجماع من طلاق لعلها قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها في هذه الحال إلا لحاجته إليه فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال أو في حال استبانة حملها لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق
وقد أكد النبي هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها وفي ذلك عدة حكم:
منها أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهي في حكم القرء الواحد فإذا طلقها في ذلك الطهر فكأنه طلقها في الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشيء الواحد
الثانية أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق وهذا ضد مقصود الرجعة فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه
الثالثة أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق وربما صلحت الحال بينهما وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا بحيث لا يكون له سبيل إليها وكيف يجتمع في حكمة الشارع وحكمه هذا وهذا
فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هي بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة
قالوا فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التي ذكرناها
وقولكم إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه ولهذا قال من قال من السلف رجل أخطأ السنة فيرد إليها فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة
ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقا فأراد أن يجمعه كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا واللعان الذي شرع كذلك وأيمان القسامة التي شرعت كذلك ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد لأنه جمع ما أمر بتفريقه على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها