فصل

وللحيل التي يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة المثال
الأول: إن استأجر منه أرضا أو بستانا أو دارا سنين ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان بنوع من أنواع المكر والغدر ولو لم يكن إلا بأن يدعي أن أجرة المثل في هذه الحال أكثر مما سمى فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يسمي لكل سنة أجرا معلوماويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة وأقلها للسنين الأول فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك
وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره في المستقبل جعل معظم الأجرة في السنين الأول وأقلها في الأواخر
المثال الثاني: أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة ولا من إخراجها
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يؤجرها رب الدار من المرأة فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا فإن كان قد أجرها من الزوج وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له وأنها في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا وإن كفل المرأة وقت العقد أنها ترد إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك
المثال الثالث: أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه في الأجرة ويفسخ عقده إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك أو يتحيل عليه حتى يبطل عقده
فالحيلة في أمنه وتخليصه: أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذي وقع عليه العقد فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها وعدم فسخها للزيادة
المثال الرابع: أن يخاف أن يؤجره ما لا يملك فيأبى المالك ويفسخ العقد ويرجع عليه بالأجرة فالحيلة في تخليصه: أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى
المثال الخامس: أن يخاف فلس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة
فالحيلة في فسخه: أن يشهد عليه في العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر أو السنة ويكون حدوث الفلس عيبا في الذمة يتمكن به من الفسخ كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مسوغا للفسخ وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطا معلوما ولا يعين مقدار المدة بل يقول آجرتك كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملك المؤجر الفسخ وإن أفلس بعد مضي شيء منها فهل يملك الفسخ على وجهين:
أحدهما: لا يملكه لأن مضي بعضها كتلف بعض المبيع وهو يمنع الرجوع
والثاني: يملكه وهو قول القاضي وهو الصحيح لأن المنافع إنما تملك شيئا فشيئا بخلاف الأعيان فإنها تملك في ان واحد فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع
المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق في ذلك
فالحيلة في ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج الدار إلى عمارته من أجرتها ويقدر لذلك قدرا معلوما فيقول مثلا: بمائة فما دونها أو يقول: من عشرة إلى مائة فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها وأنه غير متبرع به وحسب له من الأجرة
وكذلك إذا استأجر منه دابة واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك
فإن قال: أذنت لك أن تنفق على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فادعى قدرا وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر
والحيلة في قبول قول المستأجر: أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعه إليه ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فالقول حينئذ قوله لأنه أمين
فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذي قبضه ويقول: إنه تلف وهو أمانة فلا يلزمني ضمانه فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يقرضه إياه ويجعله في ذمته ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك
المثال السابع: إذا آجره دابة أو دارا مدة معلومة وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة فطريق التخلص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأجرتها بعد لكل يوم دينار أو نحوه فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة
المثال الثامن: إذا كان له عليه دين فقال: اشتر له به كذا وكذا ففعل لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئا لنفسه من دين الغير بفعله
وطريق التخلص: أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برىء منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه فكما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه وإنما برىء بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا فقالوا: لا يصح العقد لأنا لا نعلم على أي المسافتين وقع العقد
قالوا: والحيلة في تصحيحه: أن يسمي للمكان الأقرب أجرة ثم يسمي منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى فيقول مثلا: آجرتك إلى الرملة بمائة ومن الرملة إلى مصر بمائة لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى ويكون قد أقام في المكان الأقرب فالحيلة في تخلصه: أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه ويصح اشتراط الخيار في عقد الإجارة إذا كانت على مدة لا تلي العقد والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان ولا غرر في ذلك ولا جهالة
وكذا إذا قال: إن خطت هذا الثوب روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإن العمل إنما يقع على وجه واحد
وكذلك قطع المسافة فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة فلا يشبه هذا قوله: بعتكه بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة فإنه إذا أخذه لا يدري بأي الثمنين أخذ فيقع التنازع ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما بخلاف عقد الإجارة
فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا فيجب أجرة عمله
المثال العاشر: إذا زرع أرضه ثم أراد أن يؤجرها والزرع قائم لم يجز لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض
وطريق تصحيحها: أن يؤجره يبيعه الزرع ثم يؤجر الأرض فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة فالحيلة: أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإذا تم العقد اشترى منه الزرع فعاد الزرع إلى ملكه وصحت الإجارة المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر لم يصح
لأن الخراج تابع لرقبة الأرض فهو على مالكها لا على المنتفع بها: من مستأجر أو مستعير
وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا
وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة ويوكله في إنفاقه عليها
والقياس يقتضي صحة العقد بدون ذلك فإنا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة يجوز أن يكون بعض الأجرة والبعض الآخر شيء مسمى
المثال الثاني عشر: لا تجوز إجارة الأشجار لأن المقصود منها الفواكه وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها
قالوا: والحيلة في جوازه: أن يؤجره الأرض ويساقيه على الشجر بجزء معلوم
قال شيخ الإسلام: وهذا لا يحتاج إليه بل الصواب جواز إجارة الشجر كما فعل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير فإنه آجرها سنين وقضى بها دينه
قال: وإجارة الأرض لأجل ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والذيار في الكرم حتى تحصل الثمرة كما يقوم على الأرض بالحرث والسقي والبذر حتى يحصل المغل فثمرة الشجر تجري مجرى مغل الأرض
فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغل من البذر وهو ملك المستأجر والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه في الأرض وسقيه والقيام عليه بخلاف استئجار الشجر فإن الثمرة من الشجرة وهي ملك المؤجر
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه وإنما هو فرق عديم التأثير
الثاني: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذي ينبته الله سبحانه وتعالى بدون بذر من المستأجر فهو نظير ثمرة الشجرة
الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة والقيام على الشجرة فهي متولدة من عمل المستأجر ومن الشجرة فللمستأجر سعي وعمل في حصولها
الرابع: أن تولد الزرع ليس من البذر وحده بل من البذر والتراب والماء والهواء فحصول الزرع من التراب الذي هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة والبذرفي الأرض قائم مقام السقي للشجرة فهذا أودع في أرض المؤجر عينا جامدة وهذا أودع في شجرة عينا مائعة ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله وهذا من أصح قياس على وجه الأرض
وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثرة في الأحكام ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه فهو إجماع منهم
ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم أو وقفا فإن المؤجر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذ ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق في أجارة الأرض فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يخسره في عقد آخر ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد في عقد بأن يقول: إنما أساقيك على جزء من ألف جزء بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا فإن هذا لا يصح فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة وبالله التوفيق
المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هي وأجرتها فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع وأنه ضامن لما غرمه المشتري من ذلك ويصح ضمان الدرك حتى عند من يبطل ضمان المجهول وضمان ما لم بجب للحاجة إلى ذلك فإن ضمن من يخاف استحقاقه: كان أقوى فإن خاف أن يظهر استحقاق على وارثه بعد موته ضمن الدرك ورثة البائع أو ورثه من يخاف استحقاقه إن أمكنه فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين وهذا قول ضعيف جدا فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفي المنفعة بلا عوض والعوض الذي بذله في مقابلة العين لا للانتفاع فإلزامه بالأجرة إلزام بما لا يلتزمه وكذلك نقول في المستعير: إذا استحقت العين لم يلزمه عوض المنفعة لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانا بلا عوض بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعوض ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذي دخل عليه