









وقد أخبر النبيأن الأعمال بالنيات: وإنما لكل امرىء ما نوى وما لم ينوه بيمينه أو كان السبب لا يقتضيه لا يجوز أن يلزم به مع القطع بأنه لم يرده ولا خطر على باله
وقد أفتى غير واحد من الفقهاء منهم ابن عقيل وشيخنا وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك أو قد زنت بفلان فقال: هي طالق ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت وأن الذي رميت به في بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها أو أنه حين رميت به كان ميتا ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن فإنه لا يقع عليه الطلاق لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب فهو كالشرط في طلاقها
وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره فإنهم قد قالوا: لو قال: لها أنت طالق وقال: أردت إن قمت دين ولم يقع به الطلاق فهذا مثله سواء ونظير هذا: ما قالوه: إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال فقال: أنت حر فبان أن المال الذي أعطاه مستحق أو زيوف لم يقع العتق وإن كان قد صرح به ذكره أصحاب أحمد والشافعي لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض ولم يسلم له وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة يزول بزوالها
وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر
فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث
وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التي يتحيلون بها على عدم الحنث وهي أنواع
أحدها التسريح
الثاني: خلع اليمين
الثالث: التحيل لفساد النكاح إما بكون الولي كان قد فعل ما يفسق به أو الشهود كانوا جلوسا على مقعد حرير ونحو ذلك فيكون النكاح باطلا فلا يقع فيه الطلاق
الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه بتغيير اسمه أو صفته أو نقله من مالك إلى مالك ونحو ذلك
فإذا غلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسئول بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها وليقم لله ناظرا ومناظرا متجردا من العصبية والحمية فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب والله ولي التوفيق
فصل
وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول: إنه لو حلف: ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه
هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد وقال الشافعي: إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه وإن علم أنها لم تمسه لم يبر وإن شك لم يحنث ولو كان هذا موجبا لبر الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب تعدد الضرب بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ويضرب بها ضربة واحدة وهذا إنما يجزى في حق المريض كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال يسقط عنه الحد واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها قال: فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول اللهوكان ذلك الرجل مسلما فقال: اضربوه حده فقالوا: يا رسول الله: إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة ففعلوا
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه فلما لقيها الشيطان وقال ما قال: أخبرت أيوب عليه السلام بذلك فقال: إنه الشيطان ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ولم يكن في شرعهم كفارة فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير ولم يحتج إلى ضربها فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة وامرأة أيوب كانت معذورة لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان وإنما قصدت الإحسان فلم تكن تستحق العقوبة فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع الله له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة
فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذي زنى فلا يتعدى بها عن محلها
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة وكانا معذورين لاذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ
قيل: قد جعل الله له مخرجا بالكفارة ويجب عليه أن يكفر عن يمينه ولا يعصي الله بالبر في يمينه ههنا ولا يحل له أن يبر فيها بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا كالحد هل تقولون: ينفعه ذلك قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر والبرد الشديد والمرض اليسير فهذا ينتظر زواله ثم يحد الحد الواجب كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن أمة لرسول اللهزنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول الله
فقال: أحسنت اتركها حتى تماثل
فصل
وأما حديث بلال في شأن التمر وقول النبيله: بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا
فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:
أحدها: أن النبيأمره أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب ونحن نقول: كل بيع صحيح يفيد الملك لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا هل هو صحيح أو فاسد وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث
فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة
قلت: ونظير ذلك: أن يحتج به محتج على جواز بيع الغائب أو على البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاث أو على البيع بشرط البراءة وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها ويقول المنازع: الشارع قد أطلق الإذن في البيع ولم يقيده
وحقيقة الأمر أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ونحن لا نسلم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح
الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم لأنه قال: وابتع بالدراهم جنيبا والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو مستلزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال نعم: هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب فقوله: بع هذا الثوب لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو ولا بكذا وكذا ولا بهذه السوق أو هذا فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن حال أو مؤجل فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها
وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الأجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهذا غلط بين فإن اللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفي ولا إثبات ولا الإتيان بها ولا تركها من لوازم الامتثال وإن كان المأمور به لا يخلو عن واحد منهما ضرورة وقوعه جزئيا مشخصا فذلك من لوازم الواقع لا أنه مقصود الأمر وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل
وقد خرج بهذا الجواب عن قول من قال: لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصودهإنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على جواز أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعلى حل ما اختلف فيه من الأشربة ونحو ذلك فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح بل هو من أبطل الاستدلال إذ لا تعرض في اللفظ لذلك ولا أريد به تحليل مأكول ومشروب وإنما أريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه وكذلك من استدل بقوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم على جواز نكاح الزانية قبل التوبة وصحة نكاح المحلل وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة كان استدلاه باطلا
وكذلك من استدل بقوله تعالى: وأحل الله البيع على حل بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه فاستدلاله باطل فإن الآية لم يرد بها بيان ذلك وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع وأنه سبحانه حرم هذا وأباح هذا فأما أن يفهم منه أنه أحل بيع كل شيء فهذا غير صحيح وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفو على حل كل مأكول ومشروب
وبمنزلة الاستدلال بقولهمن استطاع منكم الباءة فليتزوج على حل الأنكحة المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن على جواز جمع الثلاث ونفوذه وعلى صحة طلاق المكره والسكران
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)