فصل

لعلك تقول قد أطلت الكلام في هذا الفصل جدا وقد كان يكفي الإشارة إليه
فيقال بل الأمر أعظم مما ذكرنا وهو بالإطالة أجدر فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين أهل المكر والمخادعة والإحتيال في العمليات وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة في العلميات وكل فساد في الدين والدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين
فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضي الله عنه وعاثت الأمة في دمائها وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى واستولت الطائفتان وقويت شوكتهما وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه ويبين أعلامه وحقائقه لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده
فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده
فصل

ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها وألقت الحرب بين العشق والتوحيد ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا فأوسعت القلوب محنة وملأتها فتنة وحالت بينها وبين رشدها وصرفتها عن طريق قصدها ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمها به أضعاف لذتها ونيله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب ويتبرأ منه محبة لو أمكنه حتى كأن لم يكن له بحبيب وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لا سيما إذا صار الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين
فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة وزالت النشوة وبقيت الحسرة فوارحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع وأن من كان مالك رقة وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع فاي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا فلو رأيت قلبه وهو في يدمحبوبه لرأيته
كعصفورة في كف طفل يسومها... حياض الرديء والطفل يلهو ويلعب
ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت
وما في الأرض أشقى من محب... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم... ويبكي إن دنوا حذر الفراق
ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليس يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه ولهيب النار في أحشائه لقلت
سبحان رب العرش متقن صنعه... ومؤلف الأضداد دون تعاند
قطر تولد عن لهيب في الحشا... ماء ونار في محل واحد
ولو شاهدت مسلك الحب في القلب وتغلغله فيه لعلمت أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح في أبدانها
فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب فالمحب بمن أحبه قتيل وهوله عبد خاضع ذليل إن دعاه لباه وإن قيل له ما تتمنى فهو غاية ما يتمناه لا يأنس ولا يسكن إلى سواه فحقيق به أن لا يملك رقة إلا لأجل حبيب وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب
فصل

إذا عرف هذا فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف إذا قيل إن الترك والكف أمر وجودي كما عليه أكثر الناس وإن قيل إنه عدمي فيكفي في عدمه عدم مقتضيه
والتحقيق أن الترك نوعان ترك هو أمر وجودي وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل فهذا سببه أمر وجودي وترك هو عدم محض فهذا يكفي فيه عدم المقتضى
فانقسم الترك إلى قسمين قسم يكفي فيه عدم السبب المقتضى لوجوده وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له من البغض والكراهة وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كف النفس وحبسها
والالتئام مسبب عن المحبة والإرادة تقتضي أمرا هو أحب إليه من هذا الذي كف نفسه عنه فيتعارض عنده الأمران فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له وأحبهما إليه على أدناهما فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه
ثم خاصية العقل واللب: التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين
فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب أو للتخلص من مكروه آخر وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها فصار سعيها في تحصيل محبوبها بالذات وأسبابه بالوسيلة ودفع مبغوضها بالذات وأسبابه بالوسيلة فسعيه في تحصيل محبوبه لما له فيه من اللذة وكذلك سعيه في دفع مكروهه أيضا لما له في دفعه من اللذة كدفع ما يؤلمه من البول والنجو والدم والقيء وما يؤلمه من الحر والبرد والجوع والعطش وغير ذلك
وإذا علم أن هذا المكروه يفضي إلى ما يحبه يصير محبوبا له وإن كان يكرهه فهو يحبه من وجه ويكرهه من وجه وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضي إلى ما يكرهه يصير مكروها له وإن كان يحبه فهو يكرهه من وجه ويحبه من وجه
فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا
فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلة لهما من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض بخلاف الحب للشيء فإنه قد يكون لنفسه لا لأجل منافاته للبغيض وبغض الانسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافي أشد
ولهذا كان أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وكان من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
فإن الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع
فإذا كانت هذه الأربعة لله تعالى كان صاحبها مستكمل الإيمان وما نقص منها فكان لغير الله نقص من إيمانه بحسبه
فصل

إذا عرف هذا فكل حركة في العالم العلوي والسفلي فسببها المحبة والارادة وغايتها المحبة والارداة
فإن الحركات ثلاث: إرادية وطبعية وقسرية
فإن المتحرك إن كان له شعور بحركته وإرادة لها فحركته إرادية وإن لم يكن له شعور بحركته أو له بها شعور وهو غير مريد لها فحركته إما على وفق طبعه أو على خلافه فالأولى طبعية والثانية قسرية
أظهر من هذا أن يقال: مبدأ الحركة إما أن يكون أمرا مباينا للمتحرك أو قوة فيه فالأول الحركة فيه قسرية والثاني إما أن يكون له به شعور أم لا فالأول: الحركة فيه إرادية والثاني طبعية فالحركة متى لازمت الشعور والإرادة فهي إرادية ومتى انتفى عنها الأمران فإن كانت بقوة في المتحرك فهي الطبعية وإن كانت من غير قوة في المحرك فهي القسرية
فكل حركة في السموات والأرض: من حركات الأفلاك والنجوم والشمس والقمر والرياح والسحاب والنبات والحيوان فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال تعالى: فالمدبرات أمرا. وقال: فالمقسمات أمرا. وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام وأما المكذبون للرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم
وقد أشبعنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأنها موكلة بأصناف المخلوقات وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظه وملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته ووكل بالموت ملائكة ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ووكل بالشمس والقمر ملائكة ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله تعالى ومنهم المرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ومنهم: النازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا ومنهم: الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ومنهم: ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وملائكة قد وكلوا بحمل العرش
وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى
ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر له لله الواحد القهار وهم ينفذون أمره لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا تتنزل إلا بأمره ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه فهم عباد له مكرمون منهم الصافون ومنهم المسبحون ليس منهم إلا من له مقام معلوم لا يتخطاه وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه وأعلاهم الذين عنده سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ورؤساؤهم الأملاك الثلاث: جبريل وميكائيل وإسرافيل وكان النبي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
فتوسل إليه سبحانه بربويبته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة
فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم، فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه لما في ذلك من الحياة النافعة
وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل في القرآن أحسن الثناء ووصفه بأجمل الصفات فقال: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهذا جبريل فوصفه بأنه رسوله وأنه كريم عنده وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه وأنه مطاع في السموات وأنه أمين على الوحي
فمن كرمه على ربه: أنه أقرب الملائكة إليه
قال بعض السلف: منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه ثم قلبها عليهم فهو قوي على تنفيذ ما يؤمر به غير عاجز عنه إذ تطيعه أملاك السموات فيما يأمرهم به عن الله تعالى قال ابن جرير في تفسيره عن إسمعيل بن أبي خالد عن أبي صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن
ووصفه بالأمانة يقتضي صدقه ونصحه وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان وقد جمع له بين المكانة والأمانة والقوة والقرب من الله
ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف عليه السلام: إنك اليوم لدينا مكين أمين والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنة شعيب في موسى عليهما السلام: إن خير من استأجرت القوي الأمين وقال تعالى في وصفه: علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذو منظر حسن وقال قتادة: ذو خلق حسن وقال ابن جرير: عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا والمرة واحدة المرر وإنما أريد به ذو مرة سوية ومنه قول النبي لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي
قلت: هذا حجة من قال: المرة القوة في الآية وهو قول مجاهد وابن زيد وهو قول ضعيف لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه شديد القوى
ولا ريب أن المرة في الحديث هي القوة لا المنظر الحسن فإما أن يقال: المرة تقال على هذا وعلى هذا وإما أن يقال وهو الأظهر: إن المرة هي الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب فهي قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا والله تعالى أعلم وقالت اليهود للنبي من صاحبك الذي يأتيك من الملائكة فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر قال: هو جبريل قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالنبات والقطر والرحمة فأنزل الله تعالى: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوك للكافرين
والمقصود: أن الله سبحانه وكل بالعالم العلوي والسفلي ملائكة فهي تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة لكونهم هم المباشرين للتدبير كقوله فالمدبرات أمرا ويضيف التدبير إليه كقوله: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر وقوله: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فهو المدبر أمرا وإذنا ومشيئة والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالا
وهذا كما أضاف التوفي إليهم تارة كقوله: توفته رسلنا وإليه تارة كقوله: الله يتوفى الأنفس ونظائره