









فصل
والفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم بل هم موجودون في سائر الأمم وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم: هم فلاسفة اليونان فهم طائفة من طوائف الفلاسفة وهؤلاء أمة من الأمم لهم مملكة وملوك وعلماؤهم فلاسفتهم ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس وليس هو بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج وأما هذا المقدوني فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة والنصارى تؤرخ له وكان أرسطاطاليس وزيره وكان مشركا يعبد الأصنام وهو الذي غزا دارا بن دار ملك الفرس في عقر داره فثل عرشه ومزق ملكه وفرق جمعه ثم دخل إلى الصين والهند وبلاد الترك فقتل وسبى
وكان لليونانيين في دولته عز وسطوة بسبب وزيره أرسطو فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته
وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة واحدهم بطليموس كما أن كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم
ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم فصاروا رعية لهم وانقرض ملكهم فصارت المملكة للروم وصارت المملكة واحدة وهم على شركهم من عبادة الأصنام وهو دينهم الظاهر ودين آبائهم فنشأ فيهم سقراط أحد تلامذة فيثاغورس وكان من عبادهم ومتألهيهم وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها فثار عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله فأودعه السجن ليكفهم عنه ثم لم يرض المشركون إلا بقتله فسقاه السم خوفا من شرهم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم وكان مذهبه في الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات فقال: إنه إله كل شىء وخالقه ومقدره وهو عزيز أي منيع ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام
وقال: إن علمه وقدرته ووجوده وحكمته بلا نهاية لا يبلغ العقل أن يضعها
وقال: إن تناهي المخلوقات بحسب احتمال القوابل لا بحسب الحكمة والقدرة فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة
قال: وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا إلا أنها لا تتناهى زمانا في آخرها لا من نحو أولها فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية
ومن مذهبه: أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه هو كونه حيا قيوما لأن العلم والقدرة والجود والحكمة تندرج تحت كونه حيا قيوما فهما صفتان جامعتان للكل وكان يقول: هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياته ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه وكلامه في المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره وبالجملة فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل ولهذا قتله قومه وكان يقول: إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم وقال: ينبغي أن يغتم بالحياة ويفرح بالموت لأن الإنسان يحيا ليموت ثم يموت ليحيا وقال: قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين
وقال: للحياة حدان أحدهما: الأمل والآخر: الأجل فبالأول بقاؤها وبالآخر فناؤها وكذلك أفلاطون كان معروفا بالتوحيد وإنكار عبادة الأصنام وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط ولما هلك سقراط قام مقامه وجلس على كرسيه
وكان يقول: إن للعالم صانعا محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات
قال: وليس في الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند الباري تعالى يشير إلى وجود صور المعلومات في علمه
فهو مثبت للصفات وحدوث العالم ومنكر لعبادة الأصنام ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم وعيب آلهتهم فسكتوا عنه وكانوا يعرفون له فضله وعمله وصرح أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو وخالفه فيه فزعم أنه قديم وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم حتى انتهت النوبة إلى أبي علي بن سينا فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل وهيهات اتفاق النقيضين واجتماع الضدين
فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل في طرف وهؤلاء القوم في طرف
وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى
وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض ويبطنون الإلحاد المحض وينتسبون إلى أهل بيت الرسولوهو وأهل بيته برآء منهم نسبا ودينا وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران لا يحرمون حراما ولا يحلون حلالا وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة النصير الطسى وزير هولاكو شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفا إخوانه من الملاحدة واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله: من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك فقال: هي قرآن الخواص وذاك قرآن العوام ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحرا يعبد الأصنام
وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه المصارعة أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم فقام له نصير الإلحاد وقعد ونقضه بكتاب سماه مصارعة المصارعة ووقفنا على الكتابين، نصرَ فيه: أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه لا يعلم شيئا وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره ولا يبعث من في القبور
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا وبعضها عن أبي نصر الفارابي وشيء يسير منها من كلام أرسطو وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه كثير التطويل لا فائدة فيه وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق لا صفة له ولا نعت ولا فعل يقوم به لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها ولا له قدرة على فعل ولا يعلم شيئا وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربا خالقا مبدعا عالما قادرا حيا ويشركون به في العبادة فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برز عليهم فيه عباد الأصنام
وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله تعالى
وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتي عشرة فرقة كل فرقة منها مختلفة اختلافا كثيرا عن الأخرى فمنهم أصحاب الرواق وأصحاب الظلة والمشاءون وهم شيعة أرسطو وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس وهي التي يحكيها ابن سينا والفارابي وابن خطيب الري وغيرهم
ومنهم الفيثاغورية والأفلاطونية ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأي واحد بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل
وبالجملة: فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض فإنهم عطلوا الشرائع وعطلوا المصنوع عن الصانع وعطلوا الصانع عن صفات كماله وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه فعطلوه عن مبدئه ومعاده وعن فاعله وغايته ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم وفي فرق المعطلة فكان منهم إمام المعطلين فرعون فإنه أخرج التعطيل إلى العمل وصرح به وأذن به بين قومه ودعا إليه وأنكر أن يكون لقومه إله غيره وأنكر أن يكون الله تعالى فوق سمواته على عرشه وأن يكون كلم عبده موسى تكليما وكذب موسى في ذلك وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحا ليطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام وكذبه في ذلك فاقتدى به كل جهمي فكذب أن يكون الله مكلعما مكلما أو أن يكون فوق سمواته على عرشه بائنا من خلقه على العرش استوى ودرج قومه وأصحابه على ذلك حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين ونكالا لأعدائه المعطلين ثم استمر الأمر على عهد نبوة موسى كليم الرحمن على التوحيد وإثبات الصفات وتكليم الله لعبده موسى تكليما إلى أن توفى موسى عليه السلام ودخل الداخل على بني إسرائيل ورفع التعطيل رأسه بينهم وأقبلوا على علوم المعطلة أعداء موسى عليه السلام وقدموها على نصوص التوراة فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحى وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق سلط عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلا وأسرا واشتدت شوكتهم واتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء والكتاب والأدباء وغيرهم واستولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب واستقرت دار مملكتهم بمصر وبنيت في أيامهم القاهرة واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب وخطب لهم على منبر بغداد
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)