ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان
ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم - وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر - أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب؛ فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس؛ فيمكثون إلى وقت الظهر؛ وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعًا؛ إلا أربعة نفر؛ فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه؛ وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقا بعدهم قليلًا؛ فقدم على الواثق رسل صاحب الروم - وهو ميخائيل بن توفيل بن مخائيل ابن أليون بن جورجس - يسأله أن يفادى بمن في يده من أسارى المسلمين فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء؛ وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين. ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء؛ فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذي قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزًا ولا شيخًا كبيرًا ولا صبيًا، فلم يزل ذلك بينهم أيامًا حتى رضوا عن كل نفس بنفس. فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شرى من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن؛ حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي داود رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة وجعفر " بن أحمد " بن الحذاء؛ ووجه معهما كاتبًا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودى به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم؛ وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم؛ وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق؛ ممن فودى به دينارًا لكل إنسان من ماله حمل معهم فمضى القوم.
فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم - وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم. فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء - فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة؛ فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودى به؛ ومن لم يقل ذلك ترى في أيدي الروم؛ ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة.
قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم؛ يقال لأحدهما أنفاس وللآخر لمسنوس؛ والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس؛ فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه أن من فودى به من المسلمين من كان معهم من أهل ذمتهم أربعة آلاف وستمائة إنسان؛ منهم صبيان ونساء ستمائة؛ ومنهم من أهل الذمة أقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الأفاق.
وذكر أبو قحطبة - وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظر كم عدد الأسرى ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم - أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطينيية وغيرها؛ إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي - وكان عندهم - فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس؛ وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم.
وذكر محمد هذا أنه كان أسيرًا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودى به هذا الفداء، وقال: فودى بنا في يوم عاشوراء على هر يقال له اللامس، على سلوقية قريبًا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسًا؛ النساء أزواجهن وصبيانهن ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرًا أو كبيرًا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه.
قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي - وهو مخاضة - فكان هؤلاء يرسلون من هنا رجلًا وهؤلاء من هنا رجلًا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا؛ وإذا صار الرمي إلى الرم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيهًا بالتكبير.
وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرًا على النهر، وعقد الروم جسرًا؛ فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم؛ فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة.
وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين.
قال: وكان البطريقان اللذان قدما الأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما.
قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين؛ فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يومًا لا يغزون حتى وصلوا إلى بلادهم ومأمنهم؛ وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس؛ ليكون عليهم الفضل استظهارًا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم.
قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحوٌ من ثلاثين رجلًا فودي بهم.
قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يومًا، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدنون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين؛ فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان؛ وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرًا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه؛ فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم.
فأخذ نحوًا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان.
وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس.
وفيها مات أبو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضي.
وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير إلى حرب بني نمير

فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.
ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم
حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم؛ وذكر أنه كان مع بغا بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فأمر له بثلاثين ألف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها؛ فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.
فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلًا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف؛ فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفًا وخمسين رجلًا، وأسر نحوًا من أربعين، ثم سار إلى حظيان ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة؛ وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه؛ حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين؛ أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحًا، فسار بغا إليهم من مرأة. وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة وأرسل إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود - وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة - فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم. ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه؛ وهم يومئذ نحو ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة؛ فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوًا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلًا، وعقروا من إبل عسكره نحوًا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.