









وكان الفاسق أحكم هذه القنطرة والبدود إحكامًا تعذر على الفعلة والنجارين الإسراع في قطعها، فأمر الموفق عند ذلك بإدخال السفن التي فيها القصب والنفط، وضربها بالنار وإرسالها مع المار؛ ففعل ذلك، فوافت السفن القنطرة فأحرقتها، ووصل النجارون إلى ما أرادوا من قطع البدود فقطعوها، وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر فدخلوه، وقوي نشاط الغلمان بدخول الشذا؛ فكشفوا أصحاب الفاجر عن مواقفهم حتى بلغوا بهم الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة، وقتل من الفجرة خلق كثير، واستأمن فريق منهم؛ فأمر الموفق أن يخلع عليهم في ساعتهم تلك، وأن يوقفوا بحيث يراهم أصحابهم ليرغبوا في مثل ما صاروا إليه؛ وانتهى الغلمان إلى الجسر الأول، وكان ذلك قبيل المغرب، فكر الموفق أن يظلم الليل، والجيش موغل في نهر أبي الخصيب، فيتهيأ للفجرة بذلك انتهاز فرصة، فأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا سالمين إلى المدينة الموفقية، وأمر الموفق بالكتاب إلى النواحي بما هيأ الله له من الفتح والظفر؛ ليقرأ بذلك على المنابر، وأمر بإثابة المحسنين من غلمانه على قدر غنائهم وبلائهم وحسن طاعتهم؛ ليزدادوا بذلك جدًا واجتهادًا في حرب عدوهم.
ففعل ذلك، وعبر الموفق في نفر من مواليه وغلمانه في الشذوات والسميريات وما خف من الزواريق إلى فوهة نهر أبي الخصيب؛ وقد كان الخبيث ضيقها ببرجين عملهما بالحجارة ليضيق المدخل وتحتد الجري، فإذا دخلت الشذا النهر لججت فيه؛ ولم يسهل السبيل إلى إخراجها منه؛ فأمر الموفق بقطع ذينك البرجين، فعمل فيهما نهار ذلك اليوم؛ ثم انصرف العمال وعادوا من غد لاستتمام قلع ما بقي من ذلك؛ فوجدوا الفجرة قد أعادوا ما قلع منهما في ليلتهم تلك؛ فأمر بنصب عرادتين قد كانتا أعدتا في سفينتين، نصبتا حيال نهر أبي الخصيب، وطرحت لهما الأناجر حتى استقرتا؛ ووكل بهما من أصحاب الشذا، وأمر بقطع هذين البرجين، وتقدم إلى أصحاب العرادتين في رمي كل من دنا من أصحاب الفاسق؛ لإعادة شيء من ذلك في ليل أو نهار؛ فتحامى الفجرة الدنو من الموضع، وأحجموا عنه، وألح الموكلون بقلع هذه الحجارة بعد ذلك، حتى استتموا ما أرادوا، واتسع المسلك للشذا في دخول النهر والخروج منه.
خبر انتقال صاحب الزنج إلى شرقي نهر أبي الخصيب
وفي هذه السنة تحول الفاسق من غربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه وانقطعت عنه الميرة من كل وجهة.
ذكر الخبر عن حاله وحال أصحابه وما آل إليه أمرهم عند انتقاله من الجانب الغربي
ذكر أن الموفق لما أخرب منازل صاحب الزنج وحرقها، لجأ إلى التحصن في المنازل الواغلة في نهر أبي الخصيب، فنزل منزلًا كان لأحمد بن موسى المعروف بالقلوص، وجمع عياله وولده حوله هناك، ونقل أسواقه إلى السوق القريبة من الموضع الذي اعتصم به؛ وهي سوق كانت تعرف بسوق الحسين، وضعف أمره ضعفًا شديدًا وتبين للناس زوال أمره، فتهيبوا جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، فبلغ عنده الرطل من خبز البر عشرة دراهم؛ فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس؛ فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله، ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعفهم؛ فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه؛ ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى، فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم، وكان لا يعاقب الخبيث أحدًا ممن فعل شيئًا من ذلك إلا بالحبس، فإذا تطاول حبسه أطلقه.
وذكر أن الفاسق لما هدمت داره وأحرقت، وانتهب ما فيها، وأخرج طريدًا سليبًا من غربي نهر أبي الخصيب تحول إلى شرقيه، فرأى أبو أحمد أن يخرب عليه الجانب الشرقي لتصير حال الخبيث فيه كحاله في الغربي في الجلاء عنه، فأمر ابنه أبا العباس بالوقوف في جمع من أصحابه في الشذا في نهر أبي الخصيب، وأن يختار من أصحابه وغلمانه جمعًا، يخرجهم في الموضع الذي كانت فيه دار الكرنبائي من شرقي نهر أبي الخصيب، ويخرج معهم الفعلة لهدم كل ما يلقاهم من دور أصحاب الفاجر ومنازلهم، ووقف الموفق على قصر المعروف بالهمذاني - وكان الهمذاني يتولى حياطة هذا الموضع، وهو أحد قادة جيوش الخبيث وقدماء أصحابه - وأمر الموفق جماعة من قواده ومواليه فقصدوا لدار الهمذاني، ومعهم الفعلة؛ وقد كان هذا الموضع محصنًا بجمع كثير من أصحاب الخبيث من الزنج وغيرهم، وعليه عرادات ومجانيق منصوبة وقسي ناوكية، فاشتبكت الحرب وكثر القتلى والجراح إلى أن كشف أصحاب الموفق الخبثاء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفعل أصحاب أبي العباس مثل ذلك بمن مر بهم من الفسقة.
والتقى أصحاب الموفق وأصحاب أبي العباس؛ فكانوا يدًا واحدة على الخبثاء، فولوا منهزمين، وانتهوا إلى دار الهمذاني، وقد حصنها ونصب عليها العرادات، وحفها بأعلام بيض من أعلام الفاجر، مكتوب عليها اسمه، فتعذر على أصحاب الموفق تسور هذه الدار لعلو سورها وحصانتها، فوضعوا عليها السلاليم الطوال، فلم تبلغ آخره، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانوا أعدوها، وجعلوا فيها الحبال لمثل هذا الموضع، فأثبتوها في أعلام الفاسق وجذبوها، فانقلبت الأعلام منكوسة من أعلى السور؛ حتى صارت في أيدي أصحاب الموفق، فلم يشك المحامون عن هذه الدار أن أصحاب أبي أحمد قد علوها، فوجلوا فانهزموا، وأسلموها وما حولها، وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من المجانيق والعرادات، وما كان فيها للهمذاني من متاع وأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من دور الفجرة، واستنفذوا في هذا اليوم من نساء المسلمين المأسورات عددًا كثيرًا، فأمر الموفق بحملهن في الشذا والسميريات والمعابر إلى الموفقية والإحسان إليهن.
ولم تزل في هذا اليوم قائمة من أول النهار إلى بعد صلاة العصر، واستأمن يومئذ جماعةٌ من أصحاب الفاسق وجماعة من خاصة غلمانه الذين كانوا في داره يلون خدمته والوقوف على رأسه؛ فآمنهم الموفق وأمر بالإحسان إليهم، وأن يخلع عليهم، ويوصلوا وتجرى لهم الأرزاق، وانصرف الموفق، وأمر أن تنكس أعلام الفاسق في صدور الشذوات ليراها أصحابه، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث في ظهر دار الهمذاني متصلةً بالجسر الأول المعقود على نهر أبي الخصيب، كان الخبيث سماها المباركة، وأعلموه أنه إن تهيأ له إحراقها لم يبق لهم سوق، وخرج عنهم تجارهم الذين بهم قوامهم؛ واستوحشوا لذلك. واضطروا إلى الخروج في الأمان. فعزم الموفق عند ذلك على قصد هذه السوق وما يليها بالجيوش من ثلاثة أوجه؛ فأمر أبا العباس بقصد جانب من هذه السوق مما يلي الجسر الأول؛ وأمر راشدًا مولاه بقصدها مما يلي دار الهمذاني، وأمر قوادًا من قواد غلمانه السودان بالقصد لها من نهر أبي شاكر، ففعل كل فريق ما أم به، ونذر الزنج بمسير الجيوش إليهم، فنضهوا في وجوههم، واستعرت الحرب وغلظت، فأمد الفاجر أصحابه. وكان المهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع في جميع أصحابهم بعد أن تكاملوا ووافتهم أمداد الخبيث بهذه السوق يحامون عنها، ويحاربون فيها أشد حرب.
وقد كان أصحاب الموفق في أول خروجهم إلى هذا الموضع وصلوا إلى طرف من أطراف هذه السوق، فأضرموه نارًا فاحترق، فاتصلت النار بأكثر السوق، فكان الفريقان يتحاربون والنار محيطة بهم؛ ولقد كان ما علا من ظلال يحترق فيقع على رءوس المقاتلة؛ فربما أحرق بعضهم، وكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس وإقبال الليل. ثم تحاجزوا، وانصرف الموفق وأصحابه إلى سفنهم، ورجع الفسقة إلى طاغيتهم بعد أن احترق السوق، وجلا عنها أهلها ومن كان فيها من تجار عسكر الخائن وسوقتهم، فصاروا في أعلى مدينته بما تخلصوا به من أموالهم وأمتعتهم. وقد كانوا تقدموا في نقل جل تجارتهم وبضائعهم من هذه السوق خوفًا من من مثل الذي نالهم في اليوم الذي أظفر الله فيه الموفق بدار الهمداني وهيأ له إحراق ما أحرق حولها.
ثم إن الخبيث فعل في الجانب الشرقي من حفر الخنادق وتعوير الطرق ما كان فعل في الجانب الغربي بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقًا عريضًا من حد جوى كور إلى نهر الغربي، وكان أكثر عنايته بتحصين ما بين دار الكرنبائي إلى النهر المعروف بجوى كور؛ لأنه كان في هذا الموضع جل منازل أصحابه ومساكنهم، وكان من حد جوى كور إلى نهر الغربي بساتين ومواضع قد أخلوها، والسور والخندق محيطان بها، وكانت الحرب إذا وقعت في هذا الموضع قصدوا من موضعهم إليه للمحاماة عنه والمنع فيه، فرأى الموفق عند ذلك أن يخرب باقي السور إلى نهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
وكان الفاسق في الجانب الشرقي من نهر الغربي في عسكر فيه جمع من الزنج وغيرهم متحصنين بسور منيع وخنادق، وهم أجلد أصحاب الخبيث وشجعانهم، فكانوا عما قرب من سور نهر الغربي؛ وكانوا يخرجون في ظهور أصحاب الموفق في وقت الحرب على جوى كور وما يليه، فأمر الموفق بقصد هذا الموضع ومحاربة من فيه وهدم سوره وإزالة المتحصنين به، فتقدم عند ذلك إلى أبي العباس وعدة من قواد غلمانه ومواليه في التأهب لذلك، ففعلوا ما أمؤروا به، وصار الموفق بمن أعده إلى نهر الغربي، وأمر بالشذا فنظمت من حد النهر المعروف بجوى كور إلى الموضع المعروف بالدباسين، وخرج المقاتلة على جنبي نهر الغربي، ووضعت السلاليم على السور.
وقد كانت لهم عليه عدة عرادات، ونشبت الحرب، ودامت مذول النهار إلى بعد الظهر، وهدم من السور مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وليس لأحدهما فضل على صاحبه إلا ما وصل إليه أصحاب الموفق من هذه المواضع التي هدموها وإحراق العرادات، ونال الفريقين من ألم الجراح أمر غليظ موجع.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)