فوجد القاسم بن عبيد الله مساغًا للقول فيه، وقال للمكتفى: يا أمير المؤمنين، قد عرضنا عليه أن نقلده أي النواحي شاء أن يمضي إليها، فأبى إلا المجيء إلى بابك، وخوفه غائلته، وحرض المكتفى على لقائه ومحاربته، واتصل الخبر ببدر أنه قد وكل بداره، وحبس غلمانه وأسبابه، فأيقن بالشر، ووجه من يحتال في تخليص ابنه هلال وإحداره إليه، فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فأمر بالحفظ به، ودعا أبا خازم القاضي على الشرقية وأمره بالمضي إلى بدر ولقائه وتطييب نفسه وإعطائه الأمان من أمير المؤمنين، على نفسه وماله وولده، فذكر أن أبا خازم قال له: أحتاج سماع ذلك من أمير المؤمنين حتى أؤديه إليه عنه، فقال له: انصرف حتى أستأذن لك في ذلك أمير المؤمنين.
ثم دعا بأبي عمر محمد بن يوسف، فأمره بمثل الذي أمر به أبا خازم، فسارع إلى إجابته إلى ما أمره به، ودفع القاسم بن عبيد الله إلى أبي عمر كتاب أمان عن المكتفى، فمضى به نحو بدر، فلما فصل بدر عن واسط ارفض عنه أصحابه وأكثر غلمانه؛ مثل عيسى النوشري وختنه يانس المستأمن وأحمد بن سمعان ونحرير الصغير، صاروا إلى مضرب المكتفى في الأمان.
فلما كان بعد مضى ليلتين من شهر رمضان من هذه السنة، خرج المكتفى من بغداد إلى مضربه بنهر ديالى، وخرج معه جميع جيشه، فعسكر هنالك، وخلع على من صار إلى مضربه من الجماعة الذين سميت، وعلى جماعة من القواد والجند.
ووكل بجماعة منهم، ثم قيد تسعة منهم، وأمر بحملهم مقيدين إلى السجن الجديد؛ ولقى - فيما ذكر - أبو عمر محمد بن يوسف بدرًا بالقرب من واسط، ودفع إليه الأمان وخبره عن المكتفى بما قال له القاسم بن عبيد الله، فصاعد معه في حراقة بدر، وكان قد سيره في الجانب الشرقي وغلمانه الذين بقوا معه في جماعة من الجند وخلق كثير من الأكراد وأهل الجبل يسيرون معه بمسيرة على شط دجلة، فاستقر الأمر بين بدر وأبي عمر على أن يدخل بدر بغداد سامعًا ومطيعًا، وعبر بدر دجلة، فصار إلى النعمانية، وأمر غلمانه وأصحابه الذين يقوا معه أن ينزعوا سلاحهم، وألا يحاربوا أحدًا، وأعلمهم ما ورد به عليه أبو عمر من الأمان؛ فبينا هو يسير إذ وافاه محمد بن إسحاق بن كنداج في شذًا، ومعه جماعة من الغلمان، فتحول إلى الحراقة، وسأله بدر عن الخبر، فطيب نفسه، وقال له قولًا جميلًا، وهم في كل ذلك يؤمرونه؛ وكان القاسم بن عبيد الله وجهه، وقال له: إذا اجتمعت مع بدر، وصرت معه في موضع واحد؛ فأعلمني.
فوجه القاسم، وأعلمه؛ فدعا القاسم بن عبيد الله لؤلؤًا أحد غلمان السلطان، فقال له: قد ندبتك لأمر، فقال: سمعًا وطاعة؛ فقال له: امض وتسلم بدرًا من ابن كنداجيق، وجئني برأسه.
فمضى في طيار حتى استقبل بدرًا ومن معه بين سيب بني كوما وبين اضطربد، فتحول من الطيار إلى الحراقة، وقال لبدر: قم، فقال: وما الخبر؟ قال: لا بأس عليك، فحوله إلى طياره، ومضى به حتى صار به إلى جزيرة بالصافية، فأخرجه إلى الجزيرة، وخرج معه، ودعا بسيف كان معه فاستله، فلما أيقن بدر بالقتل سأله أن يمهله حتى يصلي ركعتين، فأمهله، فصلاهما، ثم قدمه فضرب عنقه، وذلك في يوم الجمعة قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه ورجع إلى طياره؛ وأقبل راجعًا إلى معسكر المكتفى بنهر ديالى ورأس بدر معه، وتركت جثته مكانها، فبقيت هنالك.
ثم وجه عياله من أخذ جثته سرًا، فجعلها في تابوت، وأخفوها عندهم، فلما كان أيام الموسم حملوها إلى مكة، فدفنوها بها - فيما قيل - وكان أوصى بذلك، وأعتق قبل أن يقتل مماليكه كلهم، وتسلم السلطان ضياع بدر ومستغلاته ودوره وجميع ماله بعد قتله.
وورد الخبر على المكتفى بما كان من قتل بدر، لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة، فرحل منصرفًا إلى مدينة السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر إليه، فوصل إليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فأمر به فنظف، ورفع في الخزانة، ورجع أبو عمر القاضي إلى داره يوم الاثنين كئيبًا حزينًا، لما كان منه في ذلك، وتكلم الناس فيه، وقالوا: هو السبب في قتل بدر، وقالوا فيه أشعارًا، فمما قيل فيه منها:
قل لقاضي المدينة المنصور ** بم أحللت أخذ رأس الأمير!
بعد إعطائه المواثيق والعه ** د وعقد الأيمان في منشور
أين أيمانك التي شهد الل ** ه على أنها يمين فجور
أن كفيك لا تفارق كفي ** ه إلى أن ترى مليك السرير
يا قليل الحياء يا أكذب الأ ** مة يا شاهدًا شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة ولا يح ** سن أمثاله ولاة الجسور
أي أمر ركبت في الجمعة الزه ** راء من شهر خير خير الشهور
قد مضى من قتلت في رمضان ** صائمًا بعد سجدة التعفير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ** أهل بغداد منكم في غرور
بدد الله شملكم وأراني ** ذلكم في حياة هذا الوزير
فأعد الجواب للحكم العا ** دل من بعد منكر ونكير
أنتم كلكم فدا لأبي خا ** زم المستقيم كل الأمور
ولسبع خلون من شهر رمضان، حمل زيدان السعيدي الذي كان قدم رسولًا من قبل بدر إلى المكتفى مع التسعة الأنفس الذين قيدوا من قواد بدر، وسبعة أنفس أخر من أصحاب بدر قبض عليهم بعدهم في سفينة مطبقة عليهم، وأحدروا مقيدين إلى البصرة، فحبسوا في سجنها.
وذكر أن لؤلؤًا الذي ولى قتل بدر غلامًا من غلمان محمد بن هارون الذي قتل محمد بن زيد بطبرستان وأكرتمش بالرى، قدم مع جماعة من غلمان محمد بن هارون على السلطان في الأمان.
وفي ليلة الاثنين لأربع عشرة بقيت من شهر رمضان منها قتل عبد الواحد بن أبي أحمد الموفق - فيما ذكر - وكانت والدته - فيما قيل - وجهت معه إلى دار مؤنس لما قبض عليه دابة له، ففرق بينه وبين الداية فمكثت يومين أو ثلاثة، ثم صرفت إلى منزل مولاتها، فكانت والدة عبد الواحد إذا سألت عن خبره قيل لها: إنه في دار المكتفى؛ وهو في عافية.
وكانت طامعة في حياته، فلما مات المكتفى أيست منه وأقامت عليه مأتمًا.
ذكر باقي الكائن من الأمور الجليلة في سنة تسع وثمانين ومائتين

فمما كان من ذلك فيها لتسع بقين من شعبان منها، ورد كتاب من إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على السلطان بخبر وقعة كانت بين أصحابه وبين ابن جستان الديملي بطبرستان، وأن أصحابه هزموه، وقرىء بذلك كتابه بمسجدي الجامع ببغداد.
وفيها لحق رجل يقال له إسحاق الفرغاني من أصحاب بدر لما قتل بدر إلى ناحية البادية في جماعة من أصحابه على الخلاف على السلطان؛ فكانت بينه هنالك وبين أبي الأغر وقعة، هزم فيها أبو الأغر، وقتل من أصحابه ومن قواده عدة، ثم أشخص مؤنس الخازن في جمع كثيف إلى الكوفة لحرب إسحاق الفرغاني.
ولسلخ ذي القعدة خلع على خاقان المفلحي، وولى معونة الرى، وضم إليه خمسة آلاف رجل.
وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعًا كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى بهم دمشق، وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون على المعونة، وذلك في آخر هذه السنة، فكانت بين طغج، وبينه وقعات كثيرة قتل فيها - فيما ذكر - خلق كثير.
ذكر خبر هذا الرجل الذي ظهر بالشام وما كان من سبب ظهوره بها

ذكر أن زكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه كان داعيًا قرمط لما تتابع من المعتضد توجيه الجيوش إلى من بسواد الكوفة من القرامطة، وألح في طلبهم، وأثخن فيهم القتلى، ورأى أنه لا مدفع عن أنفسهم عند أهل السواد ولا غناء، سعى في استغواء من قرب من الكوفة من أعراب أسد وطييء وتميم وغيرهم من قبائل الأعراب، ودعاهم إلى رأيه؛ وزعم لهم أن من بالسواد من القرامطة يطابقونهم على أمره إن استجابوا له.
فلم يستجيبوا له، وكانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البر بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها، وتحمل الرسل وأمتعة التجار على إبلها، فأرسل زكرويه أولاده إليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا إلى علي بن أبي طالب وإلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وذكروا أنهم خائفون من السلطان، وأنهم ملجئون إليهم، فقبلوهم على ذلك، ثم دبوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة؛ فلم يقبل ذلك أحد منهم - أعني من الكلبيين - إلا الفخذ المعروفة ببني العليص ابن ضمضم بن عدي بن جناب ومواليهم خاصة، فبايعوا في آخر سنة تسع وثمانين ومائتين بناحية السماوة ابن زكرية المسمى بيحيى والمكنى أبا القاسم، ولقبوه الشيخ، على أمر احتال فيهم، ولقب به نفسه، وزعم لهم أنه أبو عبد الله ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد.
وقد قيل إنه زعم أنه محمد بن عبد الله بن يحيى.
وقيل إنه زعم أنه محمد ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب.
وقيل إنه لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابن يسمى عبد الله، وزعم لهم أن أباه المعروف بأبي محمود داعية له، وأن له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأن ناقته التي يركبها مأمورة، وأنهم إذا اتبعوها في مسيرها ظفروا.
وتكهن لهم، وأظهروا عضدًا له ناقصة، وذكر أنها آية، وانحارت إليه جماعة من بني الأصبغ، وأخلصوا له وتسموا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بالله بناحية الرصافة في غربي الفرات من ديار مضر، فاغتروه وقتلوه، وحرقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كل قرية اجتازوا بها حتى أصعدوا إلى أعمال الشأم التي كان هارون بن خمارويه قوطع عليها، وأسند أمرها هارون إلى طغج بن جف، فأناح عليها وهزم كل عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينة دمشق، فأنفذ المصريون إليه بدرًا الكبير غلام ابن طولون، فاجتمع مع طغج على محاربته، فواقعوهم قريبًا من دمشق، فقتل الله عدو الله يحيى بن زكرويه.
وكان سبب قتله - فيما ذكر - أن بعض البرابرة زرقه بمزراق واتبعه نفاط، فزرقه بالنار فأحرقه؛ وذلك في كبد الحرب وشدتها، ثم دارت على المصريين الحرب، فانحازوا، فاجتمعت موالى بني العليص إلى بني العليص ومن معهم من الأصبغيين وغيرهم على نصب الحسين بن زكرويه أخي الملقب بالشيخ فنصبوا أخاه، وزعم لهم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد، وهو ابن نيف وعشرين سنة، وقد كان الملقب بالشيخ حمل موالى بني العليص على صريحهم، فقتلوا جماعة منهم، واستذلوهم، فبايعوا الحسين ابن زكرويه المسمى بأحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد أخيه، فأظهر شامة في وجهه ذكر أنها آيته، وطرأ إليه ابن عمه عيسى بن مهرويه المسمى عبد الله، وزعم أنه عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فلقبه المدثر، وعهد إليه؛ وذكر أنه المعنى في السورة التي يذكر فيها المدثر، ولقب غلامًا من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين، وظهر على المصريين، وعلى جند حمص وغيرها من أهل الشأم، وتسمى بأمره المؤمنين على منابرها، وكان ذلك كله في سنة تسع وثمانين، وفي سنة تسعين.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة من هذه السنة صلى الناس في قمص الصيف ببغداد، فهبت ريح الشمال عند العصر، فبرد الهواء حتى احتاج الناس بها من شدة البرد إلى الوقود والاصطلاء بالنار، ولبس المحشو والجباب، وجعل البرد حتى جمد الماء.
وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد بالرى ومحمد بن هارون وابن هارون - فيما قيل - حينئذ في نحو من ثمانية آلاف، فانهزم محمد بن هارون وتقدم أصحابه، وتبعه من أصحابه نحو من ألف، ومضوا نحو الديلم، فدخلها مستجيرًا بها، ودخل إسماعيل بن أحمد الرى، وصار زهاء ألف رجل - فيما ذكر - ممن انهزم من أصحابه إلى باب السلطان.
وفي جمادى الآخرة منها لأربع خلون منها ولي القاسم بن سيما غزو الصائفة بالثغور الجزرية، وأطلق له من المال اثنا وثلاثون ألف دينار.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.