ومعنى عاشر، وهو أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة. وجعله قريبا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارتَه إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به. فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع أو يوضع فيه الإعجاز.
ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف - لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع.
ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابها متماثلا، وبين مع ذلك إعجازهم فيه.
وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.
فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *
ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصور في النفس كتصور الاشكال، ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.
واعلم أن من قال من أصحابنا إن الاحكام معللة بعلل موافقة لمقتضى العقل جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه، كنحو ما يعللون به الصلاة، ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة، ووجوه تستحسن.
وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم. وفى ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول.
وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور وذكرنا المزية المتعلقة بها، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه.
فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه؟
قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضا: إن وجه الإعجاز في نظم القرآن [ من أجل ] أنه حكاية عن كلام الله، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف. وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك.
فصل في شرح ما بينا من وجوه إعجاز القرآن

فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب والصدق والإصابة في ذلك كله، فهو كقوله تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } فأغزاهم أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، إلى قتال العرب والفرس والروم.
وكقوله: { الم. غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين }. وراهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك، وصدق الله وعده.
وكقوله في قصة أهل بدر: [ { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } وكقوله ]: { سيهزم الجمع ويولون الدبر }
وكقوله: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءؤسكم ومقصرين لا تخافون }.
وكقوله: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا }. وصدق الله تعالى وعده في ذلك كله.
وقال في قصة المخلفين عنه في غزوته: { لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا }. فحق ذلك كله وصدق، ولم يخرج من المنافقين الذين خوطبوا بذلك معه أحد.
وكقوله: { ليظهره على الدين كله }.
وكقوله: { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }. فامتنعوا من المباهلة، ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية نارا، على ما ذكر في الخبر.
وكقوله: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } ولو تمنوه لوقع بهم. فهذا وما أشبهه فصل.





وأما الوجه الثاني الذي ذكرناه، من إخباره من قصص الأولين وسير المتقدمين، فمن العجيب الممتنع على من لم يقف على الأخبار ولم يشتغل بدرس الآثار. [18] وقد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها وحضرها.
ولذلك قال الله تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون }.
وقال: { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين }.
وقال: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك }. فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة.
وقال: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين }.





فأما الكلام في الوجه الثالث، وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف، فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوها:
منها: أنا قلنا إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم.
ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزون غير المقفى، لأن قوما من كفار قريش ادعوا أنه شعر.
ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا.
ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم.
ومنهم من يدعي أنه كلام موزون.
فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.