فأما قوله: وبيضةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤها * تمتعتُ من لهو بها غير مُعجَلِ
تجاوزتُ أحراسا وأهوال معشرٍ * على حِراصٍ لو يُسِرّون مقتلي [188]
فقد قالوا: عنى بذلك أنها كبيضة خِدر في صفائها ورقتها، وهذه كلمة حسنة، ولكن لم يسبق إليها؛ بل هي دائرة في أفواه العرب، وتشبيه سائر.
ويعني بقوله: "غير معجل": أنه ليس ذلك مما يتفق قليلا وأحيانا، بل يتكرر له الاستمتاع بها، وقد يحمله غيره على أنه رابط الجأش، فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها.
وليس في البيت كبير فائدة، لأن الذي حكى في سائر أبياته قد تضمن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها، فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى، إلا الزيادة التي ذكر من منعتها، وهو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني.
والبيت الثاني ضعيف.
وقوله: "لو يسرون مقتلي" أراد أن يقول: لو أسروا، فإذا نقله إلى هذا ضعف ووقع في مضمار الضرورة، والاختلال على نظمه بين، حتى إن المتأخر ليَحتَرِزُ من مثله.





وقوله:
إذا ما الثريا في السماء تَعَرَّضَتْ * تعرُّض أثناء الوشاح المُفَصَّلِ
قد أنكر عليه قوم قوله: "إذا ما الثريا في السماء تعرضت"، وقالوا: الثريا لا تتعرض، حتى قال بعضهم: سمى الثريا وإنما أراد الجَوزاء، لأنها تعرض، والعرب تفعل ذلك، كما قال زهير: "كأحمر عاد" [189] وإنما هو أحمر ثمود. [190]
وقال بعضهم في تصحيح قوله: [ إنما ] تعرض أول ما تطلع [ وحين تغرب ]، كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه، وهو ناحيته. [191] وهذا كقول الشاعر: [192]
تعرَّضتْ لي بمجازٍ خلِّ * تعرُّض المُهرة في الطِّوَلِّ
يقول: تريك عرضها وهي في الرسن.
وقال أبو عمرو: يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء، كما يأخذ الوشاح وسط المرأة.
والأشبه عندنا: أن البيت غير معيب من حيث عابوه به، وأنه من محاسن هذه القصيدة، ولولا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره، ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد:
أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شئ من النجوم مثل ما في وصف الثريا، وكل قد أبدع فيه وأحسن، فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه.
فمن ذلك قول ذي الرمة:
وَرَدتُ اعتسافا والثريا كأنها * على قمة الرأس ابنُ ماء محلّق
ومن ذلك قول ابن المعتز:
وترى الثريا في السماء كأنها * بيضاتُ أُدْحيٍّ يَلُحْنَ بفَدْفدِ
وكقوله:
كأن الثريا في أواخر ليلها * تَفَتَّحُ نور أو لجامٌ مفضَّضُ
وقوله أيضا:
فناولنيها والثريا كأنها * جَنى نَرجِسٍ حَيَّى الندامى به الساقي
وقول الأشهب بن رميلة:
ولاحت لساريها الثريا كأنها * لدى الأفق الغربي فرط مسلسل
ولابن المعتز:
وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه * كذات قرط أرادته وقد سقطا
أخذه من ابن الرومي في قوله:
طيب ريقه إذا ذقت فاه * والثريا بجانب الغرب قرط
ولابن المعتز:
قد سقاني المدام والـ * صبح بالليل مؤتزر
والثريا كنور غصـ * ن على الأرض قد نثر
وقوله:
وتروم الثريا * في السماء مراما
كانكباب طمر * كاد يلقى لجاما
ولابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها * جمان وهي من سلكه فتبددا
ولو نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا لطال عليك الكتاب وخرج عن الغرض، وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب، وليس فيه شئ غريب.
وفي جملة ما نقلناه ما يزيد على تشبيهه في الحسن أو يساويه أو يقاربه. فقد علمت أن ما حلّق فيه، وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه، أمر مشترك، وشريعة مورودة، وباب واسع، وطريق مسلوك. وإذا كان هذا بيت القصيدة، ودرة القلادة، وواسطة العقد وهذا محله - فكيف بما تعداه؟
ثم فيه ضرب من التكلف، لأنه قال: "إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح"، فقوله: "تعرضت": من الكلام الذي يستغنى عنه، لأنه يُشبّهُ أثناءَ الوشاحِ [ بالثريا ]، سواء كان في وسط السماء أو عند الطلوع والمغيب، فالتهويل بالتعرض والتطويل بهذه الألفاظ لا معنى له.
وفيه: أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصل، فلا معنى لقوله "تعرض أثناء الوشاح"، وإنما أراد أن يقول: تعرض قطعة من أثناء الوشاح، فلم يستقم له اللفظ، حتى شبه ما هو كالشئ الواحد بالجمع.