









وقوله:
فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها * لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت: يمين الله ما لك حيلة * وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
انظر إلى البيت الأول والأبيات التي قبله، كيف خلط في النظم، وفرّط في التأليف! فذكر التمتع بها، وذكر الوقت والحال والحراس، ثم ذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ووصل إليها، من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحد. والمُتَفَضِّلُ: الذي في ثوب واحد، وهو الفَضْل، فما كان من سبيله أن يقدمه إنما ذكره مؤخرا.
وقوله: "لدى الستر": حشو، وليس بحسن ولا بديع، وليس في البيت حُسن، ولا شئ يفضل لأجله.
وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال، ذكر الأصمعي أن معنى قوله "ما لك حيلة"، أي ليست لك جهة تجئ فيها والناس أحوالي. [193]
والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت.
وقوله:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا * على إثرنا أذيال مِرطٍ مرجّلِ
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * بنا بطنَ خَبْتٍ ذي حقاف عَقَنْقَلِ
البيت الأول [ يذكر من محاسنه ]: من مساعدتها إياه، حتى قامت معه ليخلوَا، وأنها كانت تجر على الإثر أذيال مرط مرجل، والمرجل: ضرب من البرود، يقال لوَشْيِه: الترجيل، وفيه تكلف. لأنه قال: "وراءنا على إثرنا"، ولو قال "على إثرنا" كان كافيا، والذيل إنما يجر وراء الماشي، فلا فائدة لذكره "وراءنا"، وتقدير القول: فقمت أمشي بها، وهذا أيضا ضرب من التكلف.
وقوله " أذيال مرط"، كان من سبيله أن يقول: ذيل مرط.
على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ليس مما يفوت بمثله غيره، ولا يتقدم به سواه. وقول ابن المعتز أحسن منه:
فبِتُّ أفرش خدي في الطريق له * ذُلا وأسحبُ أكمامي على الأثرِ
وأما البيت الثاني فقوله "أجزنا" بمعنى "قطعنا"، و "الخبت": بطن من الأرض، و "الحِقْف": رمل منعرج، "العقنقل": المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض.
وهذا بيت متفاوت مع الأبيات المتقدمة، لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة، وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامه فائدة.
والكلام الغريب واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تُحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها، كقوله عز وجل في وصف يوم القيامة: { يوما عبوسا قمطريرا }. فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع، فهي مكروهة مذمومة، بحسب ما تحمد في موضعها.
وروي أن جريرا أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته:
بان الخليط برامتين فودعوا * أوَكلما جدوا لبين تجزعُ؟
كيف العزاء ولم أجد مذ بِنْتُمُ * قلبا يقر ولا شرابا ينقعُ
قال: وكان يزحف من حسن هذا الشعر، حتى بلغ قوله:
وتقول بوزع: قد دببت على العصا * هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
فقال: أفسدت شعرك بهذا الاسم.
وأما قوله:
هصرت بغصنيْ دوحة فتمايلت * على هضيم الكشح ريَّا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة * ترائبها مصقولة كالسجنجل
فمعنى قوله "هَصَرتُ": جذبت وثنيت.
وقوله "بغصني دوحة"، تعسف، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين.
والمصراع الثاني أصح، وليس فيه شئ إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين. وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر، ولكنه - مع تكرره على الألسن - صالح.
وأما معنى قوله "مُهَفهَفة": أنها مخففة ليست مثقلة.
و "الُمفاضة": التي اضطرب طولها.
والبيت - مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة، ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة، وما فيه من الخلل، من تخصيص الترائب بالضوء، بعد ذكر جميعها بالبياض - فليس بطائل، ولكنه قريب متوسط.
وقوله:
تَصُدُّ وتُبدي عن أسِيلٍ وتتقي * بناظرة من وحش وَجْرَةَ مُطْفَل
وَجِيدٍ كجيد الريم ليس بفاحش * إذا هي نَصَّته ولا بمُعَطَّلِ
معنى قوله "عن أسيل": أي بأسيل، وإنما يريد خدا ليس بكَزٍّ.
وقوله: "تتقي" يقال: اتقاه بحقه أي جعله بينه وبينه.
وقوله: "تصد وتبدي عن أسيل": متفاوت، لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد.
وقوله: "تتقى بناظرة ": لفظة مليحة، ولكن أضافها إلى ما نظم به كلامه، وهو مختل، وهو قوله: "من وحش وجرة"! وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا، كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء أو المها دون إطلاق الوحش، ففيهن ما تستنكر عيونها.
وقوله: "مُطفل" فسروه على أنها ليست بصبية، وأنها قد استحكمت، وهذا اعتذار متعسف. وقوله "مطفل": زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي. ولكن قد يحتمل عندي أن يفيد غير هذه الفائدة، فيقال: إنها إذا كانت مطفلا لحظتْ أطفالها بعين رقة، ففي نظر هذه رقة نظر المودة، ويقع الكلام معلقا تعليقا متوسطا.
وأما البيت الثاني فمعنى قوله: "ليس بفاحش": أي ليس بفاحش الطول. ومعنى قوله: "نصته": رفعته. ومعنى قوله: "ليس بفاحش" - في مدح الاعناق - كلام فاحش موضوع منه! وإذا نظرتَ في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر، فكيف وقع على هذه الكلمة، ودُفع إلى هذه اللفظة؟ وهلا قال كقول أبي نواس:
مثل الظباء سَمَتْ إلى * رَوضٍ صَوادِرَ عن غَديرِ
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)