ولم يقع مثل ذلك له وحده، فقد قال الأعشى:
فأدخلك الله بَرْدَ الجنا * ن جذلان في مدخل طيب
وقال أيضا:
فرميت غفلة عينه عن شاته * فأصبت حية قلبها وطِحالها
وقال في فرسه:
ويأمر لليحموم كل عشية * بقَتٍّ وتعليق فقد كاد يَسْنَقُ [214]
وقال: * شاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلشُلٌ شَولٌ * [215] وهذه الألفاظ في معنى واحد.
وقد وقع لزهير نحوه كقوله:
فأقسمت جهدا بالمنازل من مِنًى * وما سحفت فيه المقاديم والقمل [216]
كيف يقول هذا في قصيدة يقول فيها:
وهل يُنبِتُ الخَطِّىَّ إلا وشيجُه * وتُغرَسُ إلا في منابتها النخلُ [217]
وكقول الطِّرماح:
سوف تدنيك من لَمِيسَ سَبَنتا * ةٌ أمارَتْ بالبول ماءَ الكِراضِ [218]
السبنتاة: الناقة الصُّلبة. والكِراض: ماء الفحل، أسالت ماء الفحل مع البول، فلم تعقد عليه، ولم تحمل، فتضعفَ. والمائر: السائل.
فإن قال قائل: أجدك تحاملت على امرئ القيس، ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللين والشراسة، وبين اللطف والشكاسة، وبين التوحش والاستئناس، والتفاوت والتباعد، ورأيت الكلام الأعدل أفضل، والنظام المستوثق أكمل؛ وأنت تجد البحتري يسبق في هذا الميدان، ويفوت الغاية في هذا الشأن؛ وأنت ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام، ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي، وكذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ ودقيق المعنى ما يتحير فيه أهل الفضل، ويقدمه الشطار والظراف على كل شاعر، ويرون لنظمه روعة لا يرون لنظم غيره، وزبرجا لا يتفق لسواه، فكيف يعرف فضل ما سواه عليه؟
فالجواب: أن الكلام في أن الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن قد تقدم.
وإذ كنا قد بينا أن شعر امرئ القيس - وهو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه، وشيخهم الذي يعترفون بفضله، وقائدهم الذي يأتمون به، وإمامهم الذي يرجعون إليه - كيف سبيله، وكيف طريق [ سقوط ] منزلته عن منزلة نظم القرآن، وأنه لا يلحظ بشعره غبار ذلك، وهو إذا لحظ ذلك كان كما قال:
فأصبحتُ من ليلى الغداة كناظر * مع الصبح في أعجاز نجم مُغرِّبِ
وكما قال أيضا:
راحت مشرقة ورحت مُغرّبا * فمتى التقاء مُشرِّقٍ ومُغَرِّبِ
وإذا كنا قد أبنا في القاعدة ما علمت، وفصلنا لك في شعره ما عرفت، لم نحتج إلى أن نتكلم على شعر [ كل ] شاعر، وكلام بليغ، والقليل يدل على الكثير.
وقد بينا - في الجملة - مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب، ومزيته عليها في النظم والترتيب، وتقدمه عليها في كل حكمة وبراعة، ثم تكلمنا على التفصيل - على ما شاهدت - فلا يبقى علينا بعد ذلك سؤال.
ثم نقول: أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة، به من الشغل في تفضيله على ابن الرومي أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن طبقته.
كذلك أبو نُوَاس، إنما يعدل شعره بشعر أشكاله، ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره، وإنما يقع بينهم التباين اليسير، والتفاوت القليل.
فأما أن يظن ظان أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن { فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }.
وإنما هي خواطر يُغِير بعضها على بعض، ويقتدي فيها بعض ببعض، والغرض الذي يرمى إليه، ويصح التوافي عليه، في الجملة، فهو قبيل متداول، وجنس متنازع، وشريعة مورودة، وطريقة مسلوكة.
ألا ترى ما روى عن الحسين بن الضحاك، قال: أنشدت أبا نواس قصيدتي التي فيها:
وشاطرى اللسان مختلق التكـ * ريه شاب المجون بالنسك
كأنه - نصب كأسه - قمر * يكرع في بعض أنجم الفلك
قال: فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها:
أعاذلَ أعتبتُ الإمامَ وأعتبا * وأعربت عما في الضمير وأعربا
وقلت لساقيها: أجِزها فلم أكن * ليأبى أميرُ المؤمينن وأشربا
فجوّزها عني عقارا ترى لها * إلى الشرف الأعلى شعاعا مطنبا
إذا عَبَّ فيها شارب القوم خلته * يقبل في داج من الليل كوكبا
قال: فقلت له: يا أبا علي، هذه مُصالتة. [219] فقال: أتظن أنه يروى لك معنى وأنا حي؟
فتأمل هذا الأخذ، وهذا الوضع، وهذا الاتباع. [220]
أما الخليعُ فقد رأى الإبداع في المعنى، فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنه، لأن قوله: "يكرع" ليس بصحيح، وفيه ثقل بيّن وتفاوت، وفيه إحالة، لأن القمر لا يصح تَصَوُّرًا أن يكرع في نجم.
وأما قول أبي نواس، "إذا عب فيها"، فكلمة قد قصد فيها المتانة، وكان سبيله أن يختار سواها من ألفاظ الشرب، ولو فعل ذلك كان أملح.
وقوله: "شارب القوم"، فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له منه أو من مثله، لإقامة الوزن.
ثم قوله: "خلته يقبل في داج من الليل كوكبا"، تشبيه بحالة واحدة من أحواله، وهي أن يشرب حيث لا ضوء هناك، وإنما يتناوله ليلا، فليس بتشبيه مستوفًى، على ما فيه من الوقوع والملاحة [ والصنعة ].
وقد قال ابن الرومي ما هو أوقع منه وأملح وأبدع:
ومُهَفهَفٍ تمتْ محاسنه * حتى تجاوز مُنيةَ النفسِ
تصبو الكئوس إلى مَراشِفه * وتحِنُّ في يده إلى الحبس
أبصرته والكأس بين فم * منه وبين أنامل خمسِ
وكأنها وكأن شاربها * قمر يقبّل عارِض الشمس
ولا شك في أن تشبيه ابن الرومي أحسن وأعجب، إلا أنه [ لم ] يتمكن من إيراده [ إلا ] في بيتين، وهما - مع سبقهما إلى المعنى - أتيا به في بيت واحد.





وإنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة، يقع فيها التنافس والتعارض؛ والأطماع تتعلق بها، والهمم تسمو إليها، وهي إلفُ طباعنا، وطوعُ مداركنا، ومجانسٌ لكلامنا.
وإعجاب قوم بنحو هذا وما يجري مجراه، وإيثار أقوام لشعر البحتري على أبي تمام وعبد الصمد وابن الرومي، وتقديم قوم كلَّ هؤلاء أو بعضهم عليه، وذهاب قوم عن المعرفة - ليس بأمر يضر بنا ولا سبب يعترض على أفهامنا.





ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلم عليها، كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس، ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة، ويستخلص من سر المعرفة سريرة، ويعلم كيف تكون الموازنة، وكيف تقع المشابهة والمقاربة.
ونجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره.